مقاهٍ في عاصمة المصارف زيورخ
19 اغسطس 2020
+ الخط -

يواصل هذا البلد الصغير الواقع تحت جبال الألب جذب الثروات العالمية وتحقيق النجاحات والنمو المتوازن، رغم أنه لا يملك أية ثروات طبيعية تذكر أو حتى كثافة سكانية، إذ إن سويسرا لا يوجد فيها نفط أو معادن أو حتى أراضٍ شاسعة مثلما هو متوفر للعديد من الدول الأوروبية الأخرى، ولكنها تعد من أكثر دول العالم نجاحاً في إدارة الاقتصاد وتحقيق الرخاء الاقتصادي لشعبها، وهو ما حدا بالعديد من الخبراء إلى إثارة التساؤل حول سر النجاح السويسري.

بينما لا يتجاوز عدد سكان سويسرا 8.7 ملايين نسمة، فإن حجم اقتصادها يتجاوز حجم اقتصادات العديد من الدول المكتظة بمئات الملايين من السكان في آسيا وأميركا الجنوبية، وحتى الدول النفطية العربية التي تصدر الملايين من براميل النفط يومياً، إذ يقدر حجم ذلك الاقتصاد بنحو 703 مليارات دولار، بحسب إحصائيات "تريدينغ إيكونومكس"، كما يحتل متوسط الدخل السنوي للمواطن السويسري المرتبة السابعة عالمياً وفق بيانات منظمة الأمم المتحدة، إذ يبلغ 46.430 ألف دولار، ويتجاوز بهذا المعدل العديد من دول الخليج النفطية، عدا دولة قطر. وحتى الآن تمكن الاقتصاد السويسري من مقاومة عاصفة كورونا التي هزت الاقتصادات العالمية بقوة، وأدت إلى ارتفاع معدلات البطالة بنحو 40 مليون في أميركا وانكماش الاقتصاد البريطاني بنسبة 25%، وتراجعات في النمو الاقتصادي بنسب فاقت العشرة في المائة في معظم الاقتصادات الصناعية التي تصنع الثراء العالمي. 
وتشير تقديرات سكرتارية الشؤون الاقتصادية في سويسرا إلى أن الاقتصاد السويسري ربما سينكمش بمعدل 6.2% خلال العام الجاري، وأن يرتفع معدل البطالة بنسبة 3.8% في نهاية النصف الثاني من العام. وبينما ضخّت دول الاقتصادات الكبرى أكثر من 18 تريليون دولار لإنقاذ اقتصاداتها من كساد جائحة كورونا، فإن المبالغ التي ضختها الحكومة السويسرية حتى نهاية النصف الثاني من العام لم تتجاوز 63 مليار دولار، وذلك وفقاً لتحليل كبير خبراء الاقتصاد بمصرف "ميرا بانك" السويسري، غريغ جونغ. 

وبحسب جونغ، فإن سويسرا لم تكن قاسية في تطبيق إجراءات العزل الاجتماعي وإغلاق الاقتصاد مثلما فعلت الدول الأوروبية، ولكن على الرغم من ذلك، فإن عدد الإصابات والوفيات لا يزال منخفضاً جداً مقارنة بالدول الأوروبية. وبحسب الإحصاءات السويسرية الرسمية، بلغ عدد الإصابات بالفيروس 38.124 ألف إصابة والوفيات 1.716 حتى نهاية الأسبوع الماضي. 
وبشأن الأسباب الكامنة وراء النجاح السويسري، يشير خبراء المال إلى أربعة عوامل رئيسية صنعت الثراء السويسري وبنت قوة الاقتصاد، إضافة إلى الاستثمار المكثف في رأس المال البشري وبناء الدولة حول الإنسان، إذ إن بناء الإنسان يعدّ من أهم ركائز بناء الدولة. 
على الصعيد الاقتصادي والمالي، يشير خبراء إلى كفاءة النظام المصرفي السويسري، واستقرار سعر صرف الفرنك السويسري، والليبرالية الرأسمالية، واحترام خصوصية الملكية والإدارة الفدرالية في تنظيم النشاط الاقتصادي. 
وساعد سويسرا في هذا النجاح المالي النظام السياسي القائم على الحياد السياسي في الصراع العالمي الذي أعطى سويسرا مصداقية دولية لدى أصحاب المال والطبقة الأرستقراطية التي تدير الثروات في أوروبا وأميركا. 

على صعيد الفرنك السويسري، رغم أنه غير مغطى بالذهب، إلا أنه يعد واحداً من أهم عملات "الملاذ الآمن" لأصحاب المال، إذ بينما يحتل الدولار الأميركي المركز الأول في العالم من حيث نسبته في احتياطات المصارف المركزية، يحتل الفرنك السويسري المركز الأول من حيث مركز "عملات الآمنة" في توظيف الثروات. 
على الصعيد المصرفي، تواصل الصناعة المصرفية السويسرية جذب الثروات العالمية رغم الحصار الذي وجدته خلال السنوات الأخيرة من الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بشأن إخفاء ثروات الأغنياء عن الضرائب. ورغم إلغاء قوانين السرية المصرفية في سويسرا بعد ضغط أميركي، فإن الثروات الخاصة تواصل التدفق على المصارف السويسرية.
وتشير وكالة فيتش الأميركية للتصنيف الائتماني إلى أن أصول المصارف السويسرية حققت ارتفاعاً كبيراً، إذ باتت تعادل نسبة 500% من حجم الاقتصاد السويسري المقدر بنحو 705 مليارات دولار. وهذا يعني أن أصول تلك المصارف أصبحت تفوق 3.5 تريليونات دولار. ويمتاز النظام المصرفي السويسري بالحرية والكفاءة واحترام خصوصية العميل وعدم إفشاء أسرار العميل إضافة إلى العائد المجزي توفير الأمان لرأس المال المستثمر.
على صعيد الاستقرار السياسي الداخلي، ساهمت الطبقة الوسطى العريضة في سويسرا التي تمتاز بالتعليم والتدريب وتوارث الخبرات وذات الدخل المرتفع في الاستقرار السياسي واحترام التنوع العرقي في سويسرا التي تُدار بالنظام الفيدرالي، مقارنة بالاضطرابات السياسية والعمالية التي شهدتها بقية الدول الأوروبية.

وهذا العامل ساهم في الاستقرار السياسي ومنح البلاد التوازن المهم بين مسؤولية المواطنة وواجبات المواطن وبين مسؤولية الإدارة السياسية في حفظ القوانين المنظمة لحرية المنافسة وعدالة توزيع الفرص وحماية القانون، وذلك وفقاً لدراسة صادرة عن مركز الدراسات الاقتصادية "فاونديشن فور إكونومكس إديوكيشن".

المساهمون