يوم الأرض في الخطاب الثقافي الفلسطيني: الرمز والدلالة

27 مارس 2016
إسماعيل شمّوط (1930 - 2006)
+ الخط -

شكَّلت الأرض، كمكان وكيان جغرافي، وكذلك كموئل وحضن يأوي إليه الإنسان، بؤرة الخطاب الفلسطيني، اليومي والثقافي، السياسي والأدبي، إلى الحد الذي جعل حياة الفلسطينيين، خلال ما يزيد على قرن من الزمان، حفرًا وسواسيًّا على المعاني المتكاثرة للأرض ودلالاتها الحافَّة وبؤرها الرمزيّة.

ولا أظنّ أننا نعثر في ثقافة شعبٍ آخر، غير الشعب الفلسطيني، على تكرار ورود لفظة الأرض، ومرادفاتها ومشتقاتها وصورها الرمزية ومعانيها الحافّة، إلى الحد الذي يُحيل الترابَ والمكانَ الجغرافيَّ إلى كيان وجودي نابض يزاحم الفرد والجماعة وجودهما، إن لم نقل إنه يُحوِّل هذا الوجود إلى مأزق، إلى تجربة مؤجَّلة، إلى وعدٍ ينتظر التحقق. ولنتذكَّر مصداقًا لهذا التصور كلَّ الشعر الفلسطينيِّ تقريبًا، بعد النكبة وحتى هذه اللحظة، وكذلك كافّة التعبيرات الخطابيّة الأخرى، والسرد الفلسطيني بأشكاله المختلفة، من يوميات ومذكرات وسيرة ذاتية وبوح يوميٍّ وحوارات وتبادلات حواريّة تدور بين الفلسطينيين في الوطن وفي المنافي، وصولاً إلى القصة والرواية والمسرح والسينما وأشكال التعبير الفنيِّ كافّة.

لا شيء غير الأرض ودلالاتها الرمزيّة ومعاني غيابها وانتظارها ورغبات العودة إليها والإيواء إلى حضنها والالتحام بها ودخول فردوسها المفقود، بل إلى الغور فيها والاندفان تحت سطحها، ما يعادل (بسبب الإحساس بالمآزق التاريخيّة المتتابعة للتجربة السياسيّة للفلسطينيين) بين الرغبة في العيش في الأرض والرغبة المهووسة بالموت من أجل الأرض أو التضحية فداءً لها.

ويمكن أن نعثر على تجسيد شديد الدلالة لهذه العلاقة بالأرض، الجسدِ الحيّ النابض، والأمِّ المفتقدة، والحبيبةِ المرغوب في الالتحام بها وحمايتها من الدنس والاغتصاب (ولنتفكَّر في هذا السياق بالدلالة الرمزية لتكرار ورود كلمة "الاغتصاب" بديلاً عن كلمة "الاحتلال" في الكلام اليوميِّ وكذلك السياسي والثقافي للفلسطينيين) في أكثر مشاهد رواية غسان كنفاني "ما تبقى لكم" (1966) تعبيرًا عن البؤرة الرمزيّة للتجربة الكيانيّة – الوجوديّة، الفرديّة والجماعيّة، للفلسطينيين، عندما يلتحم البطل الهارب – الراغب في اللجوء إلى أمه، والناجي من الدنس والخيانة، المتطهِّر منهما، بجسد الأرض النابض الحيّ مثل رحم أم.

في سياق متصل كان الشعر، وهو حامل التجربة الثقافية الفلسطينية قبل النكبة وبعدها، يطور ما يمكن أن نسميَّه "استعارة الأرض الكبرى" التي ستختزل علاقة الإنسان الفلسطيني بالأرض.

وقد استطاع الشاعر أبو سلمى (عبد الكريم الكرمي)، لقربه من مزاج الرومانسية العربية، أن يبلور في شعره، قبل النكبة وبعدها، الملامح الأولى لهذه الاستعارة التي تعجن الأرض بجسد الحبيبة وتجعل القصيدة تشع بدلالات كثيرة تفيض عن كيان المحبوب باتجاه الأرض المفقودة والبلاد التي أصبحت بعيدة.

وتَمثَّل التحويل الجذري لصورة الأرض، الذي بدأه أبو سلمى في غزلياته، في اشتقاق رمز المرأة - الوطن الذي يختزل عناصر عديدة من الوجود: التجربة الشخصية الكيانية للشاعر، وتجربة شعبه الفلسطيني، والتجربة المشتركة التي تنصهر فيها ذات الشاعر بالجماعة.

ولقد شكلت هذه الاستعارة المركزية في شعر أبي سلمى أساساً لتطويرات عديدة في شعر المقاومة فيما بعد، ووصل محمود درويش باستعارة الأرض إلى آفاق بعيدة وأعماق لم تبلغها على أيدي غيره من الشعراء الفلسطينيين الآخرين الذين تابعوا إرث أبي سلمى وابراهيم طوقان وعبد الرحيم محمود بعد حلول ليل النكبة الطويل.

وبهذا المعنى عمل أبو سلمى على إنضاج البذور الأولى لتجربة وجودية جماعية تتعانق فيها الأرض الفلسطينية كجسد بعيد وناء مع الذات الجماعية المهددة بالانمحاء والذوات الفردية التي تتحلل وتذوب في ذات الجماعة لكتابة لحن جماعي يتخذ من الشعر وسيلته التعبيرية الناضجة.

انطلاقًا من التصوّر السابق، لا يمكن النظر إلى التعبير الأدبي والفني والثقافي الفلسطيني عن يوم الأرض، إلا بوصفه لحظةً متصّلة من التعبير المتواتر، الوسواسيِّ، عن تجربة كيانيّة منشغلة بالأرض ومعانيها الرمزيّة ووجودها المتعيِّن، لكن الرجراج غير المُتَيَقَّن منه، في ثقافة الفلسطينيين وأشكال تعبيرهم عن ذواتهم الفرديّة والجماعيّة.

صحيحٌ أنها تمثّل لحظة ذُرويّة من ذرى ذلك التعبير وحدثًا مفصليًّا يذكِّر بوحدة الشعب الفلسطينيِّ، الباقي على أرضه كما الموزّعين في المنافي القريبة والبعيدة من أبناء هذا الشعب، لكنها تظلُّ جزءًا من متصلٍ وجودي – تعبيري لا يني يتكرر.

يجري التعبير عن هذه الدلالة الرمزية للحدث في "قصيدة الأرض" لمحمود درويش (ديوان "أعراس" 1977) التي تُعدُّ أهمَّ نص شعري، أدبي، ثقافي، أنجزته الجماعة الفلسطينية عن التئام ذاتها المبعثرة واستعصاء تمزيق وحدتها الكيانيّة، كما الرمزيّة، رغم جميع محاولات الكولونياليّة الإحلاليّة الصهيونيّة وحروبها الكثيرة التي شنتها ضد الفلسطينيين.

يتخذ محمود درويش من حدث استشهاد "خديجة ورفيقاتها"، في انتفاضة يوم الأرض، منصَّة للتعبير عن دلالات الخصب والولادة والبعث والتجدد التي يولِّدها فعل الاستشهاد والالتحام بجسد الأرض، بالمعنيين الرمزيِّ والوجوديِّ.

ونعثر في "قصيدة الأرض" على قاموس التموزيين والموتيفات المتكررة في أساطير الخصب والتجدد والبعث، حيث تحضر عناصر الطبيعة التي تفور في ربيع الخصوبة التي يستثيرها ويبعثها مصرع خمس فتيات فلسطينيات على بوابة مدرسة ابتدائية في فلسطين 48.

لكن رغم هذه التموزيّة الطاغية في القصيدة، والاندراج في تيّار مهيمن في القصيدة العربية المعاصرة (بدءًا من السياب وخليل حاوي وأدونيس وليس انتهاءً بمحمود درويش)، فإن العنصر الأساسي البارز هو التشديد على الثيمة الخاصة بعلاقة الفلسطينيِّ بالأرض وحلوله فيها وحلولها فيه، بما يتردد في هذا التعبير من تبادل المرأة والأرض موضعيهما في سياق التعبير، وغياب المسافة التعبيرية الفاصلة بينهما، لأن الأرض هي الأم والأم هي الأرض (أنا الأرض/ والأرض أنت).

وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى دلالة الخصب واخضرار الطبيعة بفعل التضحية والافتداء، وتخلل عناصر جسد الشهيد الترابَ وانسرابه ذرّاتٍ في جسد الأرض، واندلاع النشيد، في دلالة على الاحتفال بالموت بوصفه بداية جديدة وانبعاثًا وتجدُّدًا للحكاية الفلسطينية، والتئامًا لشطري البرتقالة الفلسطينية في الأرض والمنافي.

وهو المعنى الأساسيُّ الذي ينطوي عليه "يوم الأرض"، كحدث ودلالة، وانتفاضةٍ على الغياب ومحو الهويّة الوطنيّة، وكذلك الوجوديّة، للشعب الفلسطيني. وهو ما يتكرر أيضًا (رغم دخول القضية الفلسطينية في ظلال النسيان في الزمن الراهن) كلمّا شعر الفلسطينيون بتهديد المحو والتحلل وتحول الفلسطينيين إلى جزر متقطعة متباعدة تسكن كلَّ أرض!

المساهمون