يوميّات الشاطئ الآخر: أنين أفريقيا

07 يونيو 2014
معتوق بوراوي / ليبيا
+ الخط -

قال "سيوتاديّا"* تحرّضني شعريّاً وبالأخصّ مساء الأحد.

مساء الأحد حيث تلك الرقصة التي تمتدّ حتى منتصف الليل، فيما تكون الحديقة أقفلت جميع أبوابها، وفاء المتشرّدون، في ركن منها، إلى فراشهم المقتضَب.

هناك تندلع الرقصة وتستمرّ وتتوهّج بفعل تأثير البيرة المتتالية، عبوة حمراء أو بيضاء، في إثر عبوة حمراء أو بيضاء، يبيعها شبانٌ وكهول باكستانيّون.

بينما يندمج الطبالون والراقصون مندفعين من نغم إلى نغم، من إيقاع إلى إيقاع، حتى تصل القصة أحياناً إلى أغان وأناشيد إسلامية، وعلى هذا الوقع ترقص الفتيات الأكثر شقرةً وحداثة، ويدروِشْن، فيما كلابهنّ تربض على مقاعد الحديقة أو على العشب، أو تطارد الكرات الصغيرة وتأتي بها ظافرةً لصاحبها أو صاحبتها.

الإيقاعات الأفريقية تثقب قلب الليل الرأسمالي، وهو يكون حينها تعب من المتابعة وتمدد بكامل طوله على العشب يستطلع الأفق وينصت إلى أنين أفريقيا البعيد، يأتيه من ثقب الناي وحُرقة المغني. ويحدث أن تجلس بجواره فتاة وصاحبها ويستمع بعض الشيء لحديثهما، فإذا بهما يتكلمان عن الفيزياء!

ها هي الفيزياء كلها أمامكما أيها العاشقان، بل ها هو التاريخ غير المكتوب يُغنّى ويحفظ في الصدور فلا يضيع.

إرث قارّة وسِجّل قرون من السير في درب الجلجلة.

يرقصون ـ وأغلبهم صبايا من عدة جنسيّات ـ كما في حلقات الدراويش مع تصاعد مقياس الكحول في الدم.

ويأتي كلب تلك الشقراء المترفة المترف مثلها ويلبد بجواره فيمسّد على شعره الناعم، ويروق هذا للكلب ولصاحبته أيضاً، فتلقي عليه تحية المساء وتفتح حديثاً.

آه تلك الفرس الشقراء ببنطلونها الجينز الضيق وقوامها المثالي وحيوية رقصها.

التي لا تتعب.

يوغل الليل، ويأتي دور الناي مع الغيتار ويطفح الشجن.

تمر طائرة ركاب بين الغيوم ويسمع هدير محركاتها النائي، آتية من ناحية البحر، ثم ما تلبث الشقراء أن تأتي لشجرة بجواره وتجلس وتتبول بكل عفوية بينما تحادث كلبها المتحرك خلفها بصوت مرتفع. هو يعطيها ظهره وهي تضحك ربما تريده أن يعطيها الوجه. ويعذرها فمقياس البيرة من المغرب حتى هذا الوقت أكيد..

والشجن يندلع من ناي ينفخ فيه كتلاني، وغيتار يعزف عليه إفريقي، ومغربيان شابان يرقصان ويهوّمان.

ينسحب ومن فتحة ضيقة في السور، يعرفها بالخبرة، يغادر وقد كسب هذه الليلة، إضافة إلى مشهد ودفء وحميمية الراقصات الجميلات، مادة خاماً ليكتب عن هذا الليل البرشلوني المسحور، هذه الدنيا العجيبة، هذه الأفريقيا التي هي أنين يترجّع في سيوتاديّا وأوروبا كلّها تستنكف حتى عن سماعه، إلا بين هؤلاء الفوضويين والهيبيين، الذين يمكث بعضهم في الحديقة نفسها، مع صاحبته، في هذه الزاوية أو تلك، وغالباً ما يشربون ويتعاطون.

ويحبهم: فقراء كعصافير الحديقة وطيّبون مثلها.

آه، لكأنه حلْم، أو فيلم، لا عِلْم.

كم مرة نظر وشاف وشكّ في واقعية ما يرى؟

هل تراه يرى حقاً؟ نعم، إنه الواقع كما هو، أو كما قرأ بعضه في روايات ولدى مهمّشين تمردوا واختاروا الجوع والحرية الفردية على المواضعات والتحقّق.

وجاء على باله "مدار السرطان" فضحك: كم صرت عتيقاً يا عم هنري!

وقال إن مزاجه الأوروبي؛ أيبيري. ومزاجه الأميركي؛ لاتيني. ومزاجه الأفريقي؛ أفريقي. أما آسيا التي ينتمي إليها فمزاجه فيها فلسطيني محض، وزفر:

سلامٌ على "البلاد" وأهلها.


* سيوتادِيّا هي أكبر متنزّه في برشلونة، وفي جزئها الشرقي يقع مبنى البرلمان الكتلاني.
** شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة

المساهمون