هشام جعيّط في حوار مع كارم يحيى: ملامح من سيرة المؤرِّخ ومشروعه الفكري

23 يوليو 2024
لم يكتب نصّاً بيوغرافياً في السيرة النبوية بل كتابة تاريخية كلاسيكية
+ الخط -
اظهر الملخص
- **لقاءات وحوارات مع هشام جعيّط**: أجرى الصحافي كارم يحيى سلسلة لقاءات مع المؤرّخ هشام جعيّط في 2018، نُشرت في كتاب بعد ست سنوات، تعكس رؤية جعيّط النقدية المتوازنة تجاه الاستشراق.
- **السيرة الذاتية والتكوين الثقافي**: يتناول الكتاب نشأة جعيّط وتكوينه العلمي في تونس وفرنسا، وتأثير العائلة المتديّنة، وتجربته في الكتابة والمضايقات الأمنية.
- **الثلاثية الفكرية والسيرة النبوية**: يركز الكتاب على كتب جعيّط الثلاثة وعلاقتهما بالمشرق العربي، وأهمية "ثلاثية السيرة النبوية" كمصدر نقدي تجاه المستشرقين الجدد.

عام 2018 كان للصحافي المصري كارم يحيى لقاءات عدة مع المؤرّخ التونسي هشام جعيّط (1935 - 2021)، في منزله بضاحية المرسى شمال تونس العاصمة، وجرت خلال ثلاثة أشهر بين فبراير/ شباط ومايو/ أيار، حيث حاور فيها الصحافي والمترجِم ومراسل "الأهرام" في تونس صاحِبَ "أوروبا والإسلام" (1978)، ولكن هذه الحوارات لم تر النور إلّا بعد ستّ سنوات في كتاب صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، بعنوان "هشام جعيّط: حوار في الفكر والتاريخ والسيرة". ويُمثّل الكتاب، بكلمات مؤلّفه: "دراسة حالة لمثقّف يبدو في الوهلة الأولى محافظاً، لكنّه يبحث عن تواز بين التراث والحداثة، وبين العروبة والإسلام وأوروبا، وبين ما كان والراهن وما سيأتي، وبين الذات والآخر"، أو بكلمات الباحث اللبناني خالد زيادة الذي قدّم للكتاب لافتاً إلى أنّ جعيّط "قد صنع ثقافته وحدّد اتجاهه بنفسه".

تُركِّز أسئلة يحيى في الفصل الأول: "بين التقليد والحداثة"، على الخطّ الفاصل بين المفهومين، وعلى المسافة التي قطعها جعيّط من تبنّي الاستشراق إلى نقده مع الاستفادة من أدواته، وهُنا يُجيب المُفكّر والمؤرّخ التونسي، بصراحة، قائلاً: "لا أرى نفسي ممّن ينتقدون الاستشراق والمستشرقين، باعتبار أنّ كلّهم فاسدون ومناوئون للإسلام"، لكنّ الإجابة تأتي في سياق عرض سِيَري عن العائلة "الزيتونية" المُتديّنة، والنشأة في كنفها، والتدرّج في التحصيل العِلمي، والخلفية السياسية التي أثّرت بطبيعة الحال في تكوينه الفكري. تُتيح هذه الحوارات المفتوحة بتقنيتها البعيدة عن الالتزام بالسجال الفكري المُحدّد، وبما فيها من انسجام بين صاحب السيرة وفكره، مجالاً للتأمّل بعُمق في مُنجَز مفكّر أصيل، استوعب آراء الكثير من المؤرّخين العرب والأجانب، لكنّه في نهاية المطاف كتب مقولته التاريخية الخاصة.

حوارات مفتوحة على مواضيع شتّى أُجريت عام 2018

ويُتابع جعيّط بَسْط رؤيته التي يُسمّيها "النقد المتوازن" مُحيلاً إلى عمله "أوروبا والإسلام" (1978) الذي بيّن فيه تأثّر المستشرقين بادعاءات التفوّق الغربي، لكن هذا لا يمنع أن بينهم من درسوا من كثب تاريخ الإسلام كماسينيون وفلهاوزن، وأوضح في "الفتنة: جدلية الدين والسياسة في الإسلام المُبكّر" (1989) أنّ "الرؤية الاستشراقية قاصرة حين تطلب مصادر متزامنة مع التاريخ الذي تكتب عنه. فلو اتّبعنا هذا المنهج لمَا أمكن أن يكتب المؤرّخون الغربيون عن التاريخ الروماني، فتيتوس ليفوس مثلاً الذي عاش قبيل المسيح بقليل، وكتب عن القرون الثلاثة قبله".

تالياً، يعود المُحاوِر في الفصل الثاني "السيرة الذاتية والتكوين الثقافي"، إلى كتاب "الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي" (1974)، في محاولة للتعمّق أكثر بتفاصيل النشأة والتكوين العِلمي والعوامل المؤثّرة فيهما، ولعل أبرز هذه المفارقات بين أجيال العائلة، هو حضور "الزيتونة" بصفتها مؤسسة تعليمية أساسية في تكوين الأجيال الكبيرة منها، كوالد هشام وأجداده، مقابل المدرسة "الصادقية" (تأسّست على يد خير الدين التونسي عام 1875) عند جيله، التي دخلها جعيّط، ابن مدينة تونس القديمة، وهو في عُمر الخامسة، وبذلك مرّ بتجربة "الكتاب" لحفظ القرآن في أيام الآحاد وحسب. 

الصورة
هشام جعيط - القسم الثقافي
هشام جعيّط

في المقابل ظلّ نمط الحياة "السوري" (تُستخدم بالدارجة التونسية للدلالة على كلّ ما هو معاصر وغير تقليدي) طاغياً، رغم أنّ العائلة متديّنة والوالد شيخ، أمّا الجدّ فيحرص على اعتمار "الشاشية" (الطربوش)، كذلك تحضر في استذكار هذه المرحلة الحرب العالمية الثانية والإنزال الألماني في تونس في تشرين الثاني/ نوفمبر 1942. كما يتطرّق إلى حضور الفرنسية، الذي ظلّ ضعيفاً في هذه المرحلة من حياته، مقارنة بالعربية، التي لا يعتبرها لغته الأمّ، بل التونسية، وبالتالي لم يتقن لغة موليير حتى مرحلة البكالوريا.

السفَر الأول لجعيّط خارج تونس كان إلى الجزائر في سن السابعة عشرة، وفيه اكتشف المؤرّخ، برفقة والده، الفوارق بين البلدين، حين كان الحديث بالعربية في الجزائر شبه معدوم، لكن يبقى التوجّه للدراسة في "دار المعلّمين العُليا" في برايس هي الخطوة الأهمّ في المرحلة التالية على "الصادقية": "شعرتُ باعتزاز زائد كون تكويني نصف عربي نصف فرنسي حقّاً. قبلتُ على نفسي التحدي: هل أستطيع أن أُزاحم الفرنسيين وفي ميدان ثقافتهم؟ في ميدان هو قلب الثقافة الفرنسية"، وليبدأ عام 1955 بدراسة علم التاريخ في السوربون حتى حصل على شهادة "التبريز" عام 1962. واللافت أنّ في كلّ هذه السنوات لم ينشدّ جعيّط إلى أي نشاط سياسي، مكتفياً بمتابعة السياسة من بعيد فقط، ومن دون أن يجعل أحداثها تؤثّر في انكبابه المنقطع على الدراسة، بل إن القارئ يلحظ في نبرته وهو يستذكر تلك المرحلة والإرهاق الذي صاحبها في تحصيله العلمي، وكأنها ماثلة حقّاً أمام ناظري الشيخ الثمانيني وهو يتحدّث إلى مُحاورِه.

يرى أنّ القسمة بين وجدان عربي وعقل أوروبي استعمارية

وعلى مستوى آخر، يتناول جعيّط في هذا الفصل من هذه الحوارات قصّة كتابه "الكوفة: نشأة المدينة العربية الإسلامية" (1986)، وعلاقته بكلود كاهان الذي اشتغل معه مرحلة الدكتوراه، وهو من عرّفه على كتاب مشابه حول البصرة ألّفه المؤرّخ العراقي صالح أحمد العلي، تحت إشراف هاملتون غِب، وتجربته بين عامَي 1962 و1968 في الكتابة لصالح مجلّة "الفكر"، التي كانت جماعة فكرية تضمّ محمد مزالي والبشير بن سلامة وعبد المجيد بن جدّو، والمضايقات الأمنية التي تعرّض لها بعيد احتجاجات 1968 التي امتدّت لتشمل الأكاديمية التونسية، وغضب بورقيبة منه إثر اعتذاره عن كتابة تاريخه الشخصي.

"الثلاثية الفكرية" عنوان الفصل الثالث، وفيه تبحث أسئلة كارم يحيى في العلاقة بين كتب "الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي" (صدر بالفرنسية أولاً عام 1974)، و"أوروبا والإسلام" (بالفرنسية، 1978)، و"أزمة الثقافة الإسلامية"، وهي نصوص كُتبت بين السبعينيات ومطلع القرن العشرين، ويوضّح جعيّط أنّ "هذه الكتابات جاءت ردّة فعل على ما وجدت عند مثقّفين تونسيّين درسوا في فرنسا من احتقارهم للمشرق العربي وابتعادهم عنه". وفي سياق الحديث عن الكتاب الأول يلفت إلى نقده النُّظم السياسية العربية، بعيداً عن ابتذال مصطلح الفاشية، ذات الواقع التاريخي الأوروبي، ومقاربته لهذه الأنظمة من باب الاستبداد الشرقي الذي تحدّث عنه مونتسكيو وماركس وهيغل.

أمّا كتابه "أوروبا والإسلام"، وصدر في العام ذاته الذي صدر فيه "الاستشراق" لإدوارد سعيد، فنجد جعيّط يُشدّد على أنه "لا يدخل في نقد الاستشراق والمركزية الأوروبية وحسب"، في الوقت عينه الذي ينطلق فيه بكتابه هذا من "أنّ ولادة أوروبا للتاريخ قد تمّت، ولم يكُن بإمكانها أن تتم إلّا عبر الإسلام"، و"أنّ فراغ القرن العاشر الميلادي بأوروبا يتوافق مع امتلاء القرن الرابع الهجري ذروة الكلاسيكية الإسلامية". وحول تزامن صدور هذا الكتاب مع "الاستشراق"، يعرب جعيّط عن أنّ كتاب سعيد لامع، ومكتوب بأسلوب يعبّر عن ثقافة واسعة لصاحبه، "لكنّ العرب صفّقوا للكتاب لأنه مكتوب من أميركي... قالوا: آه كتبه عربي أميركي". ويُضيف: "لا يوجد شيء اسمُه عقل عربي وعقل أوروبي. هو عقل إنساني. لكن، لكوني عربيّاً يصحّ القول بأنّ وجداني عربي. لكن تظلّ الفكرة في هذا التقسيم بين عقل ووجدان على هذا النحو استعمارية".

ويُختتم الكتاب بفصل أخير حول "ثلاثية السيرة النبوية": "في السيرة النبوية: الوحي والقرآن والنبوّة" (1999)، و"في السيرة النبوية: تاريخية الدعوة المحمدية في مكّة" (2006)، و"في السيرة النبوية: مسيرة محمد في المدينة وانتصار الإسلام" (2015). ويعتبر جعيّط الثلاثية أهمّ عمل أنجزه، وأنّه لم يكتب "بيوغرافيا"، بل انطلق من كتابة تاريخية بالصفة النقدية الكلاسيكية المعهودة.

كذلك يُميّز المؤرّخ التونسي في حديثه إلى كارم يحيى اختلاف ما اعتمد عليه في كلّ جزء من هذه الثلاثية، ففي الجزء الأول اعتمد على القرآن لتدقيق مفهوم الوحي، وما حدث في فترة التنزيل الأولى، من دون الاعتماد على السير وما كتبه المستشرقون، لكنّه التفت أيضاً إلى سوسيولوجيا الأديان، وفي الجزء الثاني يُشير إلى عودته إلى ابن إسحق وكذلك سير البلاذري والطبري وطبقات ابن سعد، أمّا في الجزء الثالث فاعتمد سيرة ابن إسحق ومغازي الواقدي، إلى جانب دراسة المدينة وفقاً لمنهج جامع بين النواحي الإنسانية والاجتماعية والطبوغرافية، مؤكّداً موقفه النقدي الصارم من موجة المستشرقين الجدُد التي بدأت في السبعينيات، وعلى رأسهم باتريشا كرون، وتندرج ضمن الأوهام أكثر من التاريخ الحقيقي.
 

المساهمون