وجاء قطع الرؤوس في تونس

17 نوفمبر 2015
+ الخط -
تمثل قصة الطفل الراعي الذي تم اغتياله بوحشية، في منطقة نائية من ولاية سيدي بوزيد، مؤشراً قوياً على أمرين اثنين. أولهما المأزق الحركي الذي تواجهه حالياً الجماعات المسلحة في تونس، لأن توسيع دائرة أهدافها من العسكريين والأمنيين، لتضم أكثر شرائح التونسيين فقراً، وهم الرعاة الذين لا شغل لهم سوى رعي الخرفان في الجبال والمناطق التي ينبت فيها القليل من الزرع، في مقابل القدر اليسير من الدخل. وهي ثاني عملية وحشية تتم في وقت قصير، يذهب ضحيتها راعي أغنام.
الأمر الآخر يخص الجانب المعياري والأخلاقي الذي يستند إليه هؤلاء، لتبرير أهدافهم الحربية، وما يقومون به من ممارسات تقشعر منها الأبدان. فللمرة الأولى في تونس، يلجأ هؤلاء إلى قتل طفل لا يتجاوز سنه 16 عاماً، لم يفقه بعد ما الذي يجري حوله. كما حصل لأول مرة قطع رأس تونسي، ثم وقع لفه في كسرة الخبز البلدي، وإرساله مع طفل آخر، لا يتجاوز سنه 14 عاماً، تجمعه بالشهيد قرابة الدم، ليتم إرساله إلى عائلته الفقيرة، والتي تتكون من أم فاقدة البصر، تعيش في وحشة، بعد أن رحل زوجها عن هذه الحياة، ولم يبق لها سوى ذلك الطفل الوحيد الذي فتكت به هذه الجماعة.
السؤال الذي يفترض أن يجيب عنه أي شخص مؤمن، أو حتى غير مؤمن: كيف يمكن تبرير هذه الجريمة البشعة، وإدراجها ضمن قاموس الجهاد الذي يُراد من خلاله التقرب إلى الله بهدف دخول الجنة؟
تأكدت هذه الجماعات من أنها لم تنجح في استمالة أهل الريف الذين يعيشون على بعد مسافات قصيرة من الجبال والكهوف التي يختبئ فيها هؤلاء المسلحون. أثبت الريفيون التونسيون، إلى حد الآن، أنهم يتمسكون بالأرض التي يعيشون منها وعليها، وأنهم غير مستعدين لخيانة وطنهم وأهاليهم، في مقابل رشوة أو تهديد، على الرغم من الفقر الشديد الذي يحيط بهم من كل جانب. صحيح، تمكن الإرهابيون من استقطاب بعض الذين وفروا لهم، طوال الفترة الماضية، قدراً من الغذاء في مقابل المال، لكن ذلك لم يتحول إلى حاضنة اجتماعية حقيقية ومستمرة. فولاء أهل الريف بقي ثابتاً للدولة، ولم ينتقل إلى الخارجين عليها الذين يريدون، اليوم، أن يرهبوهم بقتل أطفالهم شر قتلة، وسرقة خرفانهم، وبث الرعب في قلوبهم، عقاباً لهم، ومن أجل أن يفرضوا عليهم تغيير الولاء، أو الالتزام بقانون الصمت.
تعلمنا جوانب كثيرة من الإسلام، منذ بدأنا نفقه الوعي بوجودنا، وعدنا إلى كتب التراث من تفسير وفقه وحديث وتاريخ، واطلعنا على أجزاء من فقه الدماء الذي أحياه هؤلاء، واتخذوا منه دستوراً لهم يبرّرون به منهجهم، في بناء مشروعهم السياسي، للمتمثل في استرجاع الخلافة. كما ساهمنا في بناء الحركة الإسلامية المعاصرة، وفق ما استطعنا قبل أن نغادر تنظيماتها وأحزابها، ولا نزال نتمنى أن يتقبل الله ما ننجزه من أعمال، وما نطلقه من دعوات. ولكن، لم يخطر ببالنا أبداً، طوال السنوات الماضية الطويلة، أن تخرج من صلب هذا الفضاء الحركي جماعة تغتال أطفالاً بكل هذه البرودة والتوحش. كيف يمكن أن تتحول الجريمة البشعة إلى وسيلة للتعبد والتقرب من الله؟ لو فعل الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ذلك، لفقد شرعية الرسالة، ولما انتشر الإسلام في عهده، ولما كانت هناك أمة تصلي عليه في كل مكان، ومن كل الأجناس والألوان والفئات والطبقات. ولولا أن هؤلاء قد تبنوا هذه الأفعال، لصدقنا ما يقوله بعضهم حول وجود مؤامرة صهيونية تبث الكراهية ضد الإسلام والمسلمين. وهل توجد هناك خطة أفضل لتحقيق ذلك من ذبح الأطفال بهذه الفظاعة؟ ومع ذلك، يؤكد ما حصل في تونس، بكل وضوح، أن هؤلاء خسروا نهائياً شعبهم مهما فعلوا.. وذلك على الرغم من بؤس النخبة السياسية التونسية.

دلالات
266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس