وقفة أمام سجن المرناقية
عندما هُدِم السجن المدني في تونس بعد الثورة، وهو الذي أُقيم في قلب العاصمة، قريباً من مقرّ رئاسة الحكومة وعدة وزارات سيادة، ظنّ الجميع أنّ أبواب السجون ستبقى مفتوحةً للذين ارتكبوا جُرماً يستوجب العقاب فقط، وأنّ ملفّ السجناء السياسيين أو سجناء الرأي قد طُوِي نهائياً.
في هذه الأيّام، عندما يَمرّ المرءُ من أمام سجن المرناقية، الذي بُنِي خارج العاصمة، وفرّ منه أخيراً خمسة إرهابيين، ويتفرّس في وجوه الذين يقفون في طوابير طويلة، معظمهم سيّدات، لزيارة أهاليهم وراء الأسوار، يُلاحِظ أنّ الخريطة عادت لتشبه ما كان يحدُث في فتراتٍ سابقة، سواء في مرحلة حكم الرئيس الحبيب بورقيبة، أو خصوصاً في عهد الرئيس زين العابدين بن علي. ففي جانب الأُسَرِ المسحوقة القادمة من الأحياء الشعبية، التي تورّط أبناؤها في قضايا نشلٍ وسرقةٍ واغتصابٍ وتعاطي مُخدّراتٍ، وتقديم شيكات من دون رصيد، وإهمال عيال، هناك عائلات مُرفّهة نسبياً انضمّت إليها، انقلبت حياتها بين عشية وضحاها، لتجد تحديداً الزوجات والبنات والأمّهات يحملن "القفة" التي يوضع فيها طعام السجين، ويقضون الساعات الطوال تحت شمسٍ حارقةٍ حتّى يتمكَّنّ من تجاوز بوابات السجن، ويلتقينَ بعد عناء أقاربَهن بضع دقائق. وأحياناً يُمنعن من الزيارة، أو يُرفض مرور الطعام الذي تعبن كثيراً في إعداده، ويدخلن في صراع مع الحرّاس. وتتوزّع هذه الأسر بين رجال أعمال مُتَّهمين بالفساد، وآخرين من وزراء سابقين ومستشارين وقضاة ومحامين وصحافيين مُتَّهمين بالتآمر على أمن الدولة، الداخلي والخارجي، أو غيرها من الجرائم التي ضبطها المنشور 54، الذي أطاح جملةً من الحقوق التي وفّرتها الثورة، وتمتّع بها التونسيون طوال العشرية الماضية، التي يصفها الخطاب الرسمي بـ"العشرية السوداء".
بالانتقال إلى سجن النساء في ضاحية منوبة، تتكرّر الظاهرة نفسها. سجينات جرت إدانتهن في قضايا ذات طابَعٍ سياسي، مثل رئيسة الحزب الدستوري الحرّ، والمحامية المُستقلّة، سنيّة الدهماني، وأخريات. والصحافية شذى حاج مبارك، المُعتقَلة منذ سنة، رغم إعاقتها، في قضية "إنستالينغو". ونظراً إلى أن عددهن في ازدياد، قرّرت ما يعرف بـ"الديناميكية النسوية" (شبكة جمعيات نسائية) تنظيم حملة من أجل المُطالبة بالإفراج عن السجينات كلّهن بسبب نشاطهن السياسي، بقطع النظر عن انتمائهن الفكري والحزبي. وهو موقف جديد وإيجابي، لما فيه من تجاوز لعقبة الصراعات الأيديولوجية، التي خرّبت الانتقال الديمقراطي طوال المرحلة السابقة.
في هذا السياق، عاد المشهد التونسي إلى مرحلة سابقة للثورة، فمعظم الفئات والشرائح تأثّرت سالباً بالسياسات المُتّبعة، فلجأ جزء من أبنائها إلى وسائل الدفاع الشرعي عن النفس، وعن حقوقها وحرّياتها. تشكَّلت رابطة عائلات المساجين السياسيين التي نظّمت صفوفها وخاضت نضالاتٍ مُشترَكة من بينها مسيرات واعتصامات عديدة. وجسّدت بذلك وحدةً معنويةً واجتماعيةً جديدة، رغم عدم وجود معرفة سابقة قبل اعتقال الأزواج والأبناء، فزوجة عصام الشابي تقف إلى جانب زوجات القاضي بشير العكرمي، والمحامي غازي الشواشي، وعبد الحميد الجلاصي المستقيل من حركة النهضة، وعائلات راشد الغنّوشي، وعبد اللطيف المكّي، الذي غادر "النهضة" وأسّس حزب العمل والإنجاز، وخيام التركي... والقائمة تطول. وأخيرا، كان احتجاج جماعي قامت به هذه العائلات بمناسبة عيد الجمهورية (25 يوليو/ تموز)، إذ نظّمت العائلات مسيرة رُفِعت خلالها شعارات ضدّ الرئيس قيس سعيّد، وطالبت برحيله. كما تردّد شعار "لا لقضاء التعليمات" للتعبير عن التشكيك في استقلالية القضاء.
تخيّم هذه الأجواء السالبة حاليّاً على تونس قبل نحو 70 يوماً من موعد الانتخابات الرئاسية، التي ستُجرى في يوم 6 أكتوبر/ تشرين الأول المُقبل. فالتحوّل الذي حصل في صفوف الزائرات والزائرين لسجن المرناقية يعكس التغيّر السياسي الكبير والعميق الذي حصل في البلاد، والذي انعكس على الحياة التونسية. فالسجون، بكلّ ما فيها من تناقضاتٍ وضحايا ومآسٍ، هي تجسيد لما تشهده المجتمعات من تحوّلات وأزمات. السجون مريضة لأنّ تونس المريضة والحائرة والقلقة تبحث عن أمل جديد.