بعد الانتخابات التونسية: انهيار الأحزاب

20 أكتوبر 2024

داخل مركز اقتراع خلال الانتخابات الرئاسية التونسية في العاصمة (6/10/2024 Getty)

+ الخط -

من النتائج التي كشفت عنها الانتخابات الرئاسية في تونس معاينة الانهيار غير المسبوق للمعارضة، بمختلف أحزابها وتنظيماتها. إذ لأول مرّة تجد كل الأحزاب، بيمينها ويسارها، نفسها عاجزة عن الدفاع عن قادتها ومناضليها، وغير قادرةٍ على ممارسة الضغط ميدانيا على السلطة، رغم ما تعانيه الأخيرة من ضعف، وما تواجهه من تحدّيات اقتصادية واجتماعية عالية الخطورة.

تشكّلت بعد الثورة ثلاثة كيانات حزبية وازنة. أولها حركة النهضة التي تقدّمت الصفوف نظراً إلى ما تملكه من رصيد بشري وقدرة تنظيمية مشهود لها بالكفاءة والانضباط. وبعد تجربتها في السلطة، تراجعت شعبيتها، وكثرت أخطاؤها، واستُهدفت من الجميع تقريبا، وأصابها الانقسام، واعتٌقل قادتها، وفشلت في الدفاع عن نفسها. وكانت آخر قلاعها جبهة الإنقاذ التي تلاشت أو تكاد.

القوة الحزبية الثانية مثلتها تجربة الحزب الدستوري الحر، الذي نجح في تحويل شظايا حزب التجمّع الدستوري الديمقراطي، المنحل، إلى قوة سياسية يُقرأ لها حساب. لكن رئيسة الحزب عبير موسي تبنّت خطابا شعبويا عالي النبرة، وتميّز أسلوبها بمسحة فولكلورية من دون إدراك منها بطبيعة المرحلة، فاستخفّت بالرئيس قيس سعيّد، وركّزت هجومها على عدوها الاستراتيجي ممثلا في "النهضة" وراشد الغنوشي، فمهّدت بذلك السبيل لما حدث يوم 25 يوليو/ تموز 2021، من خلال تعطيل البرلمان، وبذلك ضربت المسار الانتقالي في مقتل.

الطرف الثالث الذي جعل من ضعفه قوة اليسار، بجناحيْه الماركسي والقومي، فقد نجح في بناء الجبهة الشعبية. وبعد اغتيال شكري بلعيد، تراجع وزن الجبهة، واحتدّ الصراع بين مكوناتها من أجل الانفراد بالزعامة، فجرى القضاء بذلك على مقوّمات القوة والاستمرارية، وعاد اليسار ليتيه في الصحراء بلا قيادة متبصّرة ومن دون خريطة طريق واضحة. ورضيت بعض فلوله بأن تكون وقوداً لصالح مشروع السلطة المركزية والحكم الفردي.

بعد الانتخابات، التفت المراقبون يميناً وشمالا، فلم يعثروا على الأحزاب التي منحتها الثورة فرصة استثنائية وتاريخية لكي تبني نفسها، وتصبح كياناتٍ ذات جذور عميقة تحميها وتمكّنها من الصمود والتطوّر والبناء. لقد ساد الساحة السياسية فراغ قاتل. توقّفت الحركة، واختفى الفاعلون السياسيون والاجتماعيون. لا أحد قادرٌ على القيادة بعد أن تضاربت المواقف، واستفحلت أزمة الثقة، ليجد قيس سعيّد نفسه وجها لوجه أمام المرمى، فسجّل الهدف من دون منازع ومن دون وجود حارس يحمي الشباك.

هل انتهت المباراة؟ طبعا لا. ولكن يُفترض تغيير اللاعبين والمدرّب، إلى جانب الحكم والطاقم الفني. احترقت الوجوه القديمة، ولابد أن تعترف بفشلها، وتترك المكان لغيرها. فقد الجميع المصداقية وثقة الجمهور. تبحث الحياة السياسية التونسية عن سيناريو وممثلين جدد حتى تتمكّن من الإبداع. ستتكرّر الفرص، وما حصل في 6 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي (الانتخابات الرئاسية) خسران جولة وليس خسران الحرب. وإذا ما استمرّت الوجوه نفسها وبالتكتيك نفسه، فستتكرّر الأخطاء، ما يحوّل النزاع إلى مهزلة، ويدفع الشعب مزيداً من الخسائر والضحايا.

تتطلب المسألة وقتاً إضافياً، فما يقال حاليا داخل تونس هو أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية مرشّحة لكي تتفاقم في المرحلة المقبلة. وأنه في صورة عدم حصول السلطة على مساعدات خارجية ضخمة، ستّتجه الأوضاع نحو اندلاع احتجاجات عفوية وانفجار اجتماعي ضخم.

يبدو أن الذين لا يزالون ينتمون إلى تنظيمات حزبية قد اختاروا الدخول في عطلة حركية فُرضت عليهم. ويمارس بعضهم حاليا نقدا ذاتيا بشكل فردي أو جماعي، في محاولة لفهم أسباب الفشل الذريع الذي مُنيت به تنظيماتهم. فمما يميز هذه المرحلة الصعبة والمعقّدة تفشّي ظاهرة المستقلين عن الأحزاب، بعد أن خاض كثيرون منهم تجارب حزبية فاشلة. وإذ هناك من يعتقد أن أخطر ما يحصل حالياً في ظل الأوضاع الصعبة وتصحّر الفضاء العام، وما نتج عنها من تقلص الحريات، إنما هو دليل على موت السياسة، وانشغال الناس بشؤونهم الخاصة.

تتمثل بارقة الأمل المتبقية في مجموعات شبابية انخرطت أخيراً في الحراك الاحتجاجي، وتحرّكت من خارج الأحزاب، هدفها الأساسي التمسّك الشديد بالدفاع عن بعض الحرّيات التي تُراد مصادرتها منهم.

266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس