البحث مجدّداً في تونس عن "العصفور النادر"

11 اغسطس 2024
+ الخط -

اتّسمت الانتخابات الرئاسية في تونس منذ الاستقلال بسعي محموم لإقصاء المنافسين. بدأت الحكاية مع الرئيس الحبيب بورقيبة، الذي جعل من نفسه أباً للتونسيين، بعد إلغاء الملكية وطرد عائلة البايات، وزعيماً ورئيساً يتمتع بصلاحيات مطلقة. وكان يُفترض أن تنتهي ولايته الثالثة في سبتمبر/ أيلول 1974. لكن أحداً لم يجرؤ على المطالبة بتغيير القانون الانتخابي. شخص وحيد تجرَّأ على اختراق جدار الصمت، هو الشاذلي زويتن، أحد أبناء الأرستقراطية التونسية، الذي فاجأ الفريق الحاكم بتقديم ترشّحه، ما جعل بعضهم يقترح في مجلس الوزراء قتله أو إحالته على مستشفى المجانين، وذلك قبل التنصيص في الدستور على رئاسة مدى الحياة.
عندما حلّ ركب الرئيس زين العابدين بن علي، وعد بأنّه سيكتفي بدورتَين، لكنّ الرغبة في البقاء تزداد مع البقاء في السلطة. لهذا وضع الجنرال آليةً "دستوريةً" لتضييق الخناق على من يُفكّر في الترشّح. انتقى أحزاباً مُعارِضة منحها أدواراً صورية، وحدَّد لرؤسائها سقفاً انتخابياً لا يتجاوز 1%. وعندما أصرَّ أحمد نجيب الشابي على خوض الانتخابات وضع له إجراءً قانونياً لمنعه من ذلك.
بعد الثورة، أخذ التونسيون يتدربون على الانتخابات الحرّة، والتعدّدية، والتداول السلمي على رئاسة الدولة، وشاهدوا تسليم الرئيس المنصف المرزوقي القصر الجمهوري لمنافسه الباجي قائد السبسي، وعندما تُوفّي الأخير، تولّى رئيس البرلمان محمد الناصر المسؤولية مؤقتاً، كما ينص عليه دستور 2014.
اليوم، يمرّ الرئيس قيس سعيّد باختبار صعب سيسجَّل في تاريخه وتاريخ البلاد. هل سيقطع مع ممارسات النظام السابق للثورة أم سيعيد إحياءها ببعض تفاصيلها؟ بمعنى آخر، هل سيقبل المنافسة الحرّة البعيدة عن الشبهات، أم سيضيّق الخناق على منافسيه حتّى يمر إلى عهدة ثانية بشكل مريح؟... جميع المراقبين، في الداخل والخارج، متفقون على أنّ تونس تسير في الاتجاه المعاكس. لا ندري من نصحَ بمنع معارضيه كلّهم تقريباً من حقّهم في منافسة حقيقية، إذ كثير منهم في السجون، بعد أن عبّروا عن نيتهم في الترشّح. منهم من صدرت في شأنهم أحكام قضائية، لعلّ من أغربها حرمان بعضهم الترشّح مدى الحياة(!)
يرفض الرئيس سعيّد بشدّة اتهامه بالانفراد بالحكم، ويهاجم الصحافة الغربية التي تصفه بـ"الدكتاتور"، ويرفض تدخّلها في الشأن المحلّي، ويعتقد جازماً أنّ ما يقوم به تطبيقٌ للقانون لا غير. لهذا يتهم خصومه بالفاسدين والإرهابيين، وله تبرير لكلّ ما يحصل لهم. وعندما يُسأل عن ملفٍّ مُحرجٍ، مثلما حصل أخيراً بالنسبة إلى الصحافيين والمدونين المسجونين، يُؤكّد أنّ النيابة العمومية تحرّكت من تلقاء نفسها، وأنّه لا يتدخَّل في شؤون القضاء، رغم علمه أنّ الذين سألوه لا يقنعهم هذا الجواب. عموماً، يعتبر نفسه في حرب متواصلة ضدّ مؤامرات تحاك هنا وهناك، ويعتقد أنّ ما يُسلَّط على "المتآمرين" عليه وعلى الدولة، من ممارسات قمعية، أمر حتّمته "معركة التحرير الوطني"، التي يخوضها بكلّ حماسة واقتناع، ويقصد بذلك التخلّص بشكل تامّ من الطبقة السياسية التي حكمت تونس قبل الثورة، وبعدها، إلى حدود 25 يوليو/ تمّوز 2021. وما يقوم به حالياً تجسيد لتلك الفكرة التي ردَّدها أمام الجميع، مُؤكّداً أنّه لن يعيد السلطة إلى هؤلاء.
في هذا السياق، لا يزال المعارضون لرئيس الدولة يبحثون عن فرصة مهما كانت ضعيفة لفكّ الحصار المضروب حولهم. ينتظرون قائمة المُرشّحين الذين سيسمح لهم بالمشاركة بعد غد (13 أغسطس/ آب)، عندها سيبحثون عمّن تتوافر فيه بعض ملامح الديمقراطية، ومؤمن بدستور 2014. فإنّ عثروا على هذا العصفور النادر واتفقوا عليه، سيعملون، من جهةٍ، على دعوة الناخبين إلى اختياره، ومن جهة أخرى، سيحاولون إقناع أغلب التونسيين بعدم التصويت لقيس سعيّد. ومن المعارضة من يُفكّر في تحريك الشارع ضدّ الرئيس اقتداءً بما حدث في بنغلادش، رغم اختلاف الأوضاع والسياق.
رغم الأجواء المشحونة والإقصاء المتواصل، يبقى الوصول إلى جولةٍ ثانيةٍ احتمالاً وارداً.

266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس