اليسار يعود في فرنسا ويخرج في تونس

14 يوليو 2024

حمّة الهمامي (يمين) وجان لوك ميلانشون (يسار) في فيلجويف جنوبي باريس (5/7/2015 فرانس برس)

+ الخط -

كان لما حدث في فرنسا من تغيير مفاجئ في موازين القوى الصدى داخل النخبة السياسية التونسية التي تعاني من أمراضٍ مزمنة. تعود هذه النخبة التي لا تزال مشدودةً إلى النموذج الفرنسي، لأسباب تاريخية، إلى مرحلة الاستعمار. لم تتوقّع الانقلاب الذي حصل في الربع ساعة الأخير من السباق الانتخابي الذي حوّل فرنسا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وذلك بفضل تقديم مصلحة الفرنسيين على المصالح الحزبية والأيديولوجية، وإعطاء الأولوية للعمل الجبهوي والمصير المشترك.

انزعجت الأوساط القريبة من الحكم في تونس من الحدث الفرنسي، ما لا يعود إلى احتمال حصول السيناريو نفسه في تونس في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وإنما لأن وصول اليسار إلى السلطة في فرنسا ينبئ باحتمال مزيد من توتر العلاقات الفرنسية التونسية. فمعروفٌ تاريخياً أن الاشتراكيين كانوا أكثر من اليمين جرأةً في قضايا الدفاع عن ملفّ الحريات، واعتباره من ثوابت السياسة الخارجية الفرنسية. ومعلومٌ أيضاً أن رئيس حزب فرنسا الأبية، جان لوك ميلانشون، صديق لحزب العمّال في تونس وزعيمه حمّة الهمامي المعارض بقوة للرئيس بن علي. لهذا يُتوقَّع أن يكون من بين الأطراف الضاغطة داخل الائتلاف الحاكم المقبل التي ستعمل على تعميق التناقض مع الحكم القائم في تونس.

أما اليسار التونسي بوضعه الراهن، فلا يمكن مقارنته باليسار الفرنسي، فهو يعاني من التفكّك الذي حوّله إلى فقاقيع لا أثر لها على الواقع، ولا يمكنه أن يشارك في أي تغييراتٍ محتملة، فخلافات اليسار بلغت درجة من التوسّع والعمق، حتى أصبح عبئاً على الحياة السياسية في تونس، فهو يتّجه نحو الاندثار الكامل من الساحة المحلية. وكان آخر إنجاز قام به هذا اليسار القصووي (باستثناء حزب العمّال) هو المساندة المطلقة للرئيس قيس سعيّد، وتحريضه على الإجهاز من موقع السلطة على حركة النهضة. وبناءً عليه، لا يمكن أخذه بالاعتبار في أيّ معادلة سياسية محتملة في المستقبلين، القريب والمتوسّط، على الأقل. وهذا ليس فقط مجرّد استنتاج شخصي، بل أيضاً قول مدعوم بشهادات أفصحت عنها شخصياتٌ يساريةٌ مستقلة نفضت يديها من جميع التنظيمات القائمة بعد انتسابها إلى هذا التنظيم أو ذاك. لقد تحوّل "فيسبوك" إلى فضاء يعجّ بتراشق التهم وتبادل المسؤولية عن هذا الانهيار. ويمكن الإشارة، في هذا السياق، إلى القاضية السابقة كلثوم كنو التي شاركت في التصدّي لسياسة بن علي، وسبق لها أن انتسبت إلى تنظيم الوطنيين الديمقراطيين، وذكّرت، في تدوينة لها، بأنها

حاولت، بعد مغادرتها مؤسّسة القضاء، الرجوع إلى الحياة السياسية، فصُدمت بالواقع "إذ وجدت الوطد أوطاد ووجدت أحزاباً سياسية أغلبها بلا برامج. كذلك وجدت أحزاباً لها قواعد أغلبها تفتقد التثقيف السياسي والحقوقي، ولا تتقن أبجديات الحوار، بل تتقن السباب والشتم. ووجدت يساراً مشتّتاً لا يُحسن التحالفات، بل يُحسن الابتعاد عن الساحة". وختمت تعليقها بالتساؤل: "فهل يأتي اليوم الذي نعيش فيه صحوة حقيقية من أجل تكوين حلف أو جبهة وطنية ديمقراطية اجتماعية، نقطع بها مع الشعبوية بجميع ألوانها ومسمّياتها؟".

بالنسبة إلى بقية الأطراف، بقيت تتعامل مع حركة النهضة باعتبارها عقبة أمام كل صيغة من شأنها أن تؤدّي الى بناء جبهة قادرة على تعديل المشهد السياسي. فهي أشبه بخط النار الذي يجب عدم الاقتراب منه حتى لا تحترق. وبالرغم من أن القيادة الحالية، ممثلة بعجمي الوريمي، قد اعتمدت على سياسة اليد المفتوحة للجميع، التي يتعرّض بسببها لإطلاق نار كثيف من طيف واسع من أبناء الحركة، استمرّ خطاب شيطنة النهضة من خصومها.

في ضوء هذه المعطيات، يستبعد أن يكون للدرس الفرنسي تأثير في المعارضة التونسية التي ستواصل رحلتها نحو المجهول، رغم الفرص التي لو عرفت كيف تستثمرها لكان وضعها مختلفاً. ومن يرضَ لنفسه البقاء في حفرة التاريخ، فلا يلُم خصمَه على دفنه وهو حيّ.