الصراع الإسلامي العلماني... هل السوريون استثناء؟
يلفّ الغموض المشهد السوري، بالرغم من الخطوات المهمّة التي قُطِعت في تحديد معالم الطريق نحو المستقبل، فالخطة الدبلوماسية التي وضعها أحمد الشرع نجحت في إشاعة انطباع إيجابي حوله، وجعل كثيرين في سورية وخارجها يعتقدون أن ما يحصل ليس مُجرَّد مسرحية بإخراج أميركي وإسرائيلي كما يروج بعضهم، وإنّما في الأمر رغبة حقيقية في إعادة بناء دولة وفق منظور لا يتعارض مع مصالح أطرافٍ كثيرة معنية بمنطقة الشرق الأوسط.
لا أحدَ قادرٌ على الجزم بأن هذا السيناريو الواعد سيستمر من دون مفاجآت غير سارّة، فالألغام تحت الأرض كثيرة ومتنوعة، وانفجارها وارد في كلّ لحظة. منها تلك التي يسبّبها أصحاب النيات الحسنة، وينسون هشاشة الأرض التي يقفون عليها. أقول ذلك بناء على تجربة تونس (يزعم صاحب هذه السطور إنه ملمّ بها)، فالصراع الذي دار ولا يزال بين الإسلاميين والعلمانيين ساهم بنسبة عالية في إفشال الانتقال الديمقراطي، وأوصل البلاد إلى المأزق الراهن. ليس الخلاف بين الطرفين مفتعلاً في المطلق، والتباين بينهما يستند، في أحيان كثيرة، على قضايا جوهرية تتعلّق برؤيتهم إلى الحياة وللمجتمع وللدين وللدولة وللحريات وللحقوق. لهذا، لا مفرّ من حصول التعارض بينهما، ولعلّ ذلك من الشروط الملازمة للحياة الثقافية والسياسية في المجتمعات العربية والإسلامية. لكن المعضلة (تتكرّر في الغالب) تكمن في الكيفية التي يُدار بها الصراع بينهما، فالسمة الغالبة على هذا الصراع تتمثّل في النزوع نحو التنافي ومحاولة شطب الآخر والقضاء عليه باعتباره " كائناً شرّيراً" و"خطراً داهماً" يجب التصدّي له بالوسائل المشروعة (وغير المشروعة) كلّها. كما تتغلّب اللغة الحربية المتبادلة بينهما من خلال التخوين أو التكفير، وتوحي العلاقة بأن الحرب الأهلية، معلنة أو صامتة، هي السيناريو المفضّل لديهما في معظم التجارب والحالات. وغالباً ما انتهى هذا الصراع إلى استعانة أحد الطرفَين (خاصّة العلمانيين أو جزءاً منهم) بسلطة قوية ومستبدّة من أجل محاصرة الخصوم وقمعهم.
من الأخطاء المنهجية التي يرتكبها المتخاصمون أن يعتقد كلاهما بامتلاك الحقيقة، والحكم على الآخرين بالجهل واللاوطنية، واتهامهم بشقّ الصفوف وتهديد وحدة الأمة، فالإسلاميون يرون في العلمانيين كائناتٍ غريبةً مهدّدةً للدين والأخلاق، في حين يرى الآخرون في الإسلاميين قوةً ظلاميةً زاحفةً ومعاديةً للحضارة والنور. أمّا الخطأ الثاني القاتل فهو التعميم، فالإسلاميون تيّارات واتجاهات شتى، وكذلك العلمانيون، الذين تشقّهم تناقضات بعضها شكلي وبعضها الآخر جذري. والخطأ الثالث أن كلّ طرف يعتقد أن خصمه ثابت لا يتطوّر ولا يتغيّر في أقواله ومواقفه حتى النهاية، رغم أن التاريخ يثبت خلاف ذلك في حالات كثيرة.
ما يُخشى في سورية أن ينفجر هذا الصراع في هذا التوقيت الحاسم. هناك محاولات لاستغلال التحوّلات الجارية لإثارة بعض المسائل الجزئية أو التي تحتاج إلى وقت، من أجل جرّ الأغلبية نحو الانقسام والاشتباك المبكّر. لكنّ فرحة السوريين بالتخلّص من حكم الأسد، وانشغالهم بالبحث عن عشرات الآلاف ممّن قضوا في سجون النظام السابق، والتهديد الإسرائيلي، عوامل حالت دون اندفاعهم نحو المعركة الأيديولوجية. ولعلّ مرونة القيادة وحرصها على عدم الانجرار وراء من يحاولون الدفع بها نحو القضايا الشائكة من قبل صحافيين ومعارضين وأنصار النظام السابق، حال دون اندلاع الحريق.
لا يعني ذلك أن مسائل الحرّيات الفردية ودور النساء في قيادة الدولة والمجتمع، وفصل الدين عن الدولة، وغيرها من قضايا طرحها بعضهم، ليست أساسية، هي قضايا ستفرض نفسها مع انطلاق "الحوار الوطني"، والشروع في صياغة الدستور الجديد. وهو ما من شأنه أن يولّد ديناميكية في المجتمع السوري، وقد يوفّر له فرصةً للقيام بنقلة جماعية بعيداً من القطيعة والتمزّق العضوي. المهم أن يتحصّن السوريون بالشجاعة والصبر والحكمة، وأن يتصدّوا لمختلف التحدّيات السياسية والثقافية والاجتماعية، بعيداً من العنف والغلبة والتعصّب والطائفية. إن فعلوا ذلك فسينجحون في نحت نموذجهم في بناء تجربتهم الخاصّة.