سورية إلى أين؟

08 ديسمبر 2024
+ الخط -

تتواصل التداعيات المزلزلة لحرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل في غزّة على الصعيدين المحلي والإقليمي. وما التطورات الهامة والمفاجئة التي تشهدها سورية حاليا سوى دليل على ذلك، فانسحاب النظام من مدن استراتيجية مثل حلب وحماة وغيرها بشكل سريع، وخلال أيام قليلة، يدل بوضوح على الأزمة الخانقة وغير المسبوقة التي يمرّ بها الجيش السوري، رغم عدم دخوله في قتال مع الجيش الإسرائيلي، وبقي يتقبّل الضربات العديدة خلال الأشهر الأخيرة. وقد كشفت المعارك التي خاضها أخيراً ضد المعارضة عن ضعفٍ شديدٍ وارتباك واضح في صفوفه، ما جعله يفضل الانسحاب من المدن الكبرى، في انتظار معركة الدفاع عن النظام في دمشق.

تغيّرت الخريطتان، العسكرية والسياسية، وأصبح حلفاء الأسد يتوقعون الأسوأ بالنسبة لمصير النظام الذي فوّت فرصة العرض المقدم من الرئيس التركي أردوغان، فالمفاوضات التي قد يقبل بها النظام السوري لن تكون في صالحه، وستُظهره في صورة الهيكل الضعيف والمرتبك الذي يدير ثلث البلد بعد خسارته حماه ثم حمص التي تصفها المعارضة بأنها مدينة الثورة.

شرعت أطرافٌ عديدة في الحديث عن مرحلة ما بعد الأسد، وهو السؤال الكبير والمثير للقلق، ليس للسوريين فقط، ولكن أيضا لمستقبل المنطقة، فالشام ليست بلداً صغيراً أو هامشياً. وهو ما جعل الجميع يفتحون من جديد أوراق (وملفات) القوى العسكرية والسياسية المكوّنة للمعارضة السورية بمختلف أطيافها، فهذه المعارضة معارضات وقوى ذات تضاريس متعددة. وقد سبق أن اختلف قادتها، وفشلوا في توحيد صفوفهم وتكوين جبهة حقيقية، وقبلوا في الأخير باتفاق أستانة قبل ثماني سنوات خلت. فهل اليوم، وقد اتّحدوا حول رفع السلاح والقيام بعملية استباقية مكنتهم من إجبار النظام على الانسحاب والتراجع، سيتمكنون من الاستمرار في المحافظة على هذه الوحدة، أم سيختلفون ويتنازعون من جديد، ويعودون إلى تغليب المصالح العِرقية والمناطقية والطائفية والأيديولوجية؟

هناك تخوف إقليمي ودولي، وربما شعبي، من الدور الذي يمكن أن يلعبه القيادي في إدارة العمليات المشتركة التابعة للمعارضة السورية، أبو محمد الجولاني، القائد الأعلى لهيئة تحرير الشام التي كانت تسمّى جبهة النصرة، واعتُبرت في فترة الفرع السوري لتنظيم القاعدة، وصنّفت وزارة الخارجية الأميركية أميرها "إرهابياً عالمياً". ونظراً إلى أنه يلعب حالياً دوراً قيادياً محورياً في هذه العملية المسلحة التي قد تقلب موازين القوى في سورية، ويُخشى في حالة الانتصار أن تعود البلد إلى وضع لا يتمنّاه الشعب السوري الحائر والممزّق، وتجد المنطقة نفسها من جديد في مرحلة "القاعدة" و"داعش"، وما كان يحصل في الرقة.

يقال إن الرجل تغير بعد أن استقلّ بآرائه، وعدّل في أفكاره، وقبل التعاون مع بقية فصائل المعارضة، لكن المستقبل وحده سيكشف مدى صحة ذلك. الثابت حالياً أن القوى العسكرية والسياسية التي قادت هذا الهجوم المضاد، بما فيها هيئة تحرير الشام، تعاملت بمسؤولية مع المدنيين، ولم ترتكب ما من شأنها أن يوصَف أعمالا إرهابية وإجرامية، فالخطاب مطمئن إلى حد ما، وكذلك الممارسات. غير أن المعارضة، في حال استمرار الهجوم، واتُّخذ القرار بالتقدّم نحو دمشق، ومحاصرة النظام لإطاحته، وقد يقاوم بشدة، ستكون، بمختلف تشكيلاتها، أمام اختبار صعب ومعقد.

سورية بلد متنوّع، وهذا التنوع لابد من المحافظة عليه بمختلف الوسائل، وأن يكون النظام السياسي الجديد قادرا على احتواء هذا التنوع ودسترته. وبالتالي، لا خيار أمام المعارضة سوى تبنّي الديمقراطية، واحترام الحرّيات وضمان حقوق الإنسان للجميع. وهذا ما رفضه النظام منذ استلام حزب البعث السلطة في سورية وفي العراق. صحيح أن البنية الاستبدادية والاحتكارية للحزبيْن تمكّنت من الصمود عشرات السنين، لكن الحصيلة جاءت كارثية. فوضع العراق اليوم مؤلم على جميع الأصعدة، ويُخشى أن تتجه سورية نحو التقسيم أو العجز عن إدارة الدولة، وتآكل الوحدة الوطنية في حال عجزت المعارضة عن توزيع السلطة.