في حاجة تونس نوبة غرام

18 اغسطس 2024
+ الخط -

فُجعت تونس فجر الاثنين الماضي، 12 أغسطس/ آب الجاري، بوفاة الفنان الرقيق والمحبّ للحياة والمخلص لقيم الثورة ياسر جرايدي. ودّع نشطاء المجتمع المدني صديقهم اللطيف الذي ساند مبادراتهم في ألحانه وكلماته البسيطة والمعبّرة عن آلام الناس وتطلعات التونسيين. لعله الأخير من بين الذين بقوا مخلصين لشعارات الثورة التي حرّكت الشارع وقلبت الموازين، وصاغت حلماً لشعبٍ فقد الحرية والعدالة والإحساس بالكرامة. وبعد 13 عاماً كاد الحلم يتلاشى، وساد الاعتقاد بأن البلاد تكاد تعود إلى المربّع السابق. قال لابنة أخيه: "الذين يغادروننا يتحوّلون إلى نجمة في السماء".

في اليوم الذي رحل فيه هذا الفنان الذي غيّر ابن عربي حياته ومساره، شهد مهرجان قرطاج الدولي عرضاً استثنائياً عنوانه "نوبة غرام"، جمع بين جمال الكلمات (شعر سيرين شكيلي)، وسحر الموسيقى (للفنان محمد علي كمون) وقوة الأصوات الصاعدة التي رجّت الجمهور بصفائها، وشقّت فضاء المسرح الأثري، وشدّت انتباه الآلاف، وفرضت عليهم التفاعل معها والتصفيق لأصحابها. ومما أضفى على العرض طابعاً مشهدياً رائعاً، اجتهاد المخرج وليد العيادي الذي نجح في تحويله إلى مشاهد شدّت انتباه جمهور لم يتربَّ على المسرح الغنائي.

حدث ذلك في سياق وضع مضطربٍ في تونس يسودُه الغموض، وتحيط به مؤشّرات قتل السياسة، ويفتقر إلى الصراع الجادّ بشأن القضايا الجوهرية التي تمسّ مستقبل الدولة والمجتمع. هناك حرب استنزاف بين السلطة وخصومها من جميع الأطراف والاتجاهات، فالسلطة تعمل على تحجيم الجمعيات والأحزاب المناهضة لها، ويعمل المعارضون على سحب الشرعية من المرشّح قيس سعيّد والعمل على إضعافه والقدح في قدراته ومصداقيته وشعبيّته. حتى بدا الصراع بين رئيس الدولة وأغلبية المجتمع السياسي والمدني يتجه نحو التنافي، تطغى عليه الرغبة المتبادلة في إزالة الطرف المقابل.

في هذه الأجواء، تصبح الثقافة الملجأ الذي بفضله يبقى المجتمع حيّاً ومقاوماً. تقاوم الثقافة الجادّة الرداءة بجميع أنواعها وأنماطها، لأن الرداءة تقتل الفكر وتبلّد المشاعر وتشوّه الذوق العام وتعمل على تنميط الأفراد والجماعات، وتهدف إلى القضاء على التنوّع والاختلاف. وبما أن الثقافة تحتاج الحرية التي بفضلها تنتعش وتزدهر وتعيش، لهذا السبب بالذات، يعتبر الفعل الثقافي عاملاً مهماً في المحافظة على قيم الثورة وتجلياتها المختلفة. الثورة التي تعني التغيير لصالح الناس وبمشاركتهم من أجل الارتقاء بهم. وهذا ما يعمل عليه العمل الثقافي البنّاء عندما يتناول مسائل الحب والبهجة والأمل، فيكون بذلك ثورياً بالضرورة، لأنه يحمي إنسانية الإنسان، وينمّي وعيه بذاته ووجوده، ويحافظ على العلاقات الاجتماعية من خلال دعم أهم ركائزها الأصيلة والعميقة. لأن مجتمعاً بلا حبّ ومعادياً للحب يتحوّل إلى كيان اجتماعي خاوٍ بلا روح ولا جمال، تسودُه الكراهية، ويقودُه العنف، بأشكاله المختلفة، إلى التفتّت والانهيار والموت.

لهذا الهدف، نظمت نسوةُ تونسياتٌ مسيرة بمناسبة صدور مجلة الأحوال الشخصية التونسية، للمطالبة بإطلاق سراح جميع المعتقلات بسبب نشاطهن السياسي ومزاولتهن حقهن في التعبير. وربطت التنسيقية النسوية التي نظمت هذا الاحتجاج ذلك بظاهرة ارتفاع نسبة قتل النساء في تونس، التي بلغت أرقاماً قياسية في السنوات الثلاث الأخيرة. وعلّلت التنسيقية ذلك بتصاعد الخطاب السياسي الرسمي المشحون، حسب اعتقادها، بجرعة زائدة من العنف الرمزي. فكلما ارتفعت أصوات الحب وامتدّت وتنوّعت، تراجع، في المقابل، خطاب الكراهية والحقد القائم على تقسيم المجتمع إلى أخيار وأشرار، وهو من شأنه الدفع ببعضهم إلى التورّط في الاحتراب الأهلي، والسعي للانتقام من المختلفين الذين يُستهدفون بشيطنتهم واستهدافهم بكل الطرق والوسائل.

تعب عموم التونسيين من هذه الأجواء الخانقة. يبحثون عن هواء نقي، وينتظرون بفارغ الصبر أن يسود الأمن والأمان في بلادهم لتعود إليهم أجواء البهجة، وتحرّك فيهم مشاعر الحب والأمل والتسامح، فهم في أشد الحاجة إلى نوبةٍ جديدة من نوبات الغرام.