نيل كاسادي: جيل شعري في سيارة مسروقة

05 سبتمبر 2014
صورة لـ نيل كاسادي في سجن "دنفر" (1944)
+ الخط -
لا نبالغ إن قلنا إن الكاتب الأميركي نيل كاسادي (1926 ـ 1968) يجسّد لوحده جيل الـ"بيت" على شكل أيقونة وثنية. فبدونه لما رأى كتاب جاك كيرواك "في مهبّ الطريق" النور، ولما كتب ألان غينسبرغ كتاب "عواء"، ولفقدنا أجزاء مهمة من كتاب ويليام بوروس "وأفراس النهر سُلقوا أحياء في أحواضهم".

وبينما يدين كيرواك وغينسبرغ لكاسادي بكل شيء، عاشره بوروس وبوكاوسكي وكين كيزي وأُعجِبوا به إلى أبعد حد. وجميعهم استشفّوا داخله العطش نفسه إلى الحرية، والطاقة المتدفّقة نفسها التي ستقتله في نهاية المطاف، خلال مساءٍ بارد، قرب سكّة حديد في المكسيك.

وفعلاً، لأسباب غامضة، سيقع كاسادي في الثالث من شباط/ فبراير 1968 في غيبوبة لن يستيقظ منها. الأكيد هو أن المخدرات التي كان يتناولها والبرد والقصور الكلوي لعبوا دوراً في ذلك. لكن ماذا يبقى من هذا البوهيمي الذي لم يكن يتوانى عن سرقة كل ما كان يرغب فيه، وخصوصاً السيارات، وعن إغراء النساء اللواتي كنّ يقعن في حبّه بالعشرات؟ ماذا يبقى من هذا الصوت الشعري الناري الذي عرف كيف يُلهِب نفوس وأقلام عصابة كاملة من أهم شعراء أميركا؟

من جهة الفنانين الذين منحهم نفَسَه، أي نبرة الـ"بيت" القوية والمتقطّعة التي توقّع رسائله ونصوصه، تبقى علامات أدبية مدوية: سيرته الذاتية التي صدرت بعد وفاته بعنوان "فتوّة أولى"، وأيضاً "في مهب الطريق" و"رؤى كودي" لكيرواك، "عواء" لغينسبرغ، "في مهبّ طريقي" لكارولين كاسادي، "اختبار حمّض" لتوم وُولف، كلمات كيزي...

باختصار، جزءٌ كبير من الأدب الأميركي الذي ظهر في الثلث الأخير من القرن العشرين، وأيضاً روح هذا الثائر الذي وُلد ونشأ في الشارع قرب والده المتشرّد السكير، ومع ذلك عشق الأدب حتى الثمالة، كما عشق السفر برّاً خلف مقود أي سيارة تقع تحت يده.

واليوم لدينا "شيءٌ رائع يتضمّن كل شيء"، كما سمّى كاسادي مشروعه الأدبي الكبير، أي كتاب يتألف من الرسائل التي وجّهها الشاعر إلى المقرّبين منه، وبالتالي تحفة أدبية ومؤثّرة ترسم، رسالة بعد رسالة، بورتريهاً حميمياً له.

طبعاً، نعرف الشياطين التي كانت متسلّطة عليه، ميوله، نقاط ضعفه، النزعة الانتحارية والهلسية التي كانت حاضرة فيه بموازاة عطشه لكل شيء. لكن تحت جلد هذه الشخصية، يظهر لنا تدريجياً وجهٌ آخر؛ وجه شخصٍ مولع بالثقافة، يقرأ بنهمٍ نادر أجمل ما أنتجته البشرية من أدب وفكر. وهذا بالتأكيد ما دفع صديقه كيرواك إلى القول إن كاسادي أمضى ثلث حياته في المكتبات العامة.

وسواء في رسائله إلى زوجاته الثلاث (لو آن وكارولين وديانا) أو في رسائله إلى أصدقائه، نعثر على جوهر حركة الـ"بيت" الصافي، أي ذلك الأسلوب الذي سيتبنّاه كيرواك ويتدرّب عليه أشهر طويلة قبل إتقانه؛ أسلوب يتميّز بإيقاعٍ متقطّع وبتجرّده من أي ترقيم، تعبره استطرادات غزيرة وتداعيات أفكار على طريقة تداعي نوتات موسيقى الجاز.

وفي هذا السياق، لا نخطئ إن قلنا إنه حين نقرأ كاسادي نسمع عزف شارلي باركر المنفرد، نسمع (ولا يتهيّأ لنا فقط) النوتات وهي تتعاقب بلا انقطاع، النفَس وهو يتوالى حتى الإنهاك. على مسافة موازية بين الكتابة العفوية والشعر المنثور، تمنحنا لغته الانطباع بأننا نستقل معه السيارة: نتمسّك أولاً في أي شيء، نتردّد، ثم نفلت أيدينا للمغامرة.

بضعة أسطر تكفي كي يسحبنا إيقاعه المجنون. تحت أعيننا، تمرّ الكيلومترات بشكلٍ خاطف، وترتسم مشاكل عاطفية لا اسم لها، وتتجذّر طموحات، وتطرق مشاكل مالية الباب إلى ما لا نهاية.

بعبارة أخرى، لا يسرد كاسادي لنا حياته، في رسائله، بل يغوص معنا داخلها، فيتحوّل أسلوبه المغناطيسي إلى مخدّر، ويصبح هو نفسه انعكاساً لنا، أو لعلنا نصبح انعكاساً له. وعلى مرّ الصفحات، تمسي أهميته الجوهرية داخل مشهد جيل الـ"بيت" ثانوية، لتحوُّله تحت أنظارنا من "مُلهِم" أو "معلّم خاص" إلى كاتب، إلى صائغ.

يمكننا أن نمضي ساعات في التساؤل حول الصورة الإستيهامية التي جسّدها كاسادي لغينسبرغ أو كيرواك، حول افتتان هذين الأخيرين بجنون صديقهما، حول مثليّتهما التي ظهرت على أثر لقائهما به. لكن لا أهمية كبيرة لذلك. إذ لم يمنح كاسادي جيل الـ"بيت" روحه فحسب، بل أوحى أيضاً بتلك الكتابة التي انبثقت في نهاية القرن العشرين وسعت إلى الالتصاق بحركة الذهن.

وبنشر رسائله حديثاً، تسمح لنا دار Finitude الفرنسية، وقبلها ببضع سنوات دار Penguin البريطانية، بإكمال صورة حركة الـ"بيت" وبإعادة ترتيب وجوهها وفقاً لأهميتهم، أي كاسادي أولاً.. وأخيراً.

دلالات
المساهمون