من أين يأتي كل هذا الشر؟

16 يونيو 2020

(منير الشعراني)

+ الخط -
انتحرت ناشطة مصرية، وتركت جوارها رسالةً تفيض ألماً وتسامحاً. اختارت حياة أخرى، كانت تثق بأنها أكثر رحمة، كل من يعرفونها عن قرب يجزمون بطيبة القلب، وجمال النفس. وكل من يتابعونها يعرفون عنها نصرة المظلوم، أياً كان توجهه. دخلت السجن لدعمها المثْلية، وتعرّضت لأقصى درجات الإهانة والتنكيل، وعلى مواقع التواصل تقرّب آلاف المتدينين إلى الله بإهانتها، والتنكيل بها حية وميتة!
يتكرّر الأمر كلما رحل أحد الناشطين في المجال العام، ممن كانت تجربتهم أكثر تعقيداً من الاختزال في ثنائية مؤمن وكافر لدى الإسلاميين، أو وطني وخائن لدى العساكر، أصحاب المعاناة والمكابدات والتقلب فوق جمر الأسئلة والشك، والبحث عن يقين حقيقي، لا مجاني، سهل، من دون شروط، أصحاب التجارب المؤلمة والعقول النقدية، هؤلاء بطبيعتهم غير مستقرّين، يبحثون كل يوم، يقرأون كل يوم، يتعلمون كل يوم، يتغيرون كل يوم، لا يمكن الحكم عليهم أو فهمهم بسهولة، لأنهم هم أنفسهم لا يفهون أنفسهم بهذا الوضوح الساذج، وتلك الحدّية المفرطة.
لا يزعجني نزوع بعض العقائديين إلى احتكار الحقيقة، فهو أمر مكرّر. المزعج حقاً هو اضطرارنا، مع كل واقعة، إلى الحديث في البديهيات، وعنها، عن الفارق بين الاعتقاد والخطاب، بين رفض الفكرة والدفاع عن حقوق الغير في تبنيها، بين يقين الوحي ونسبية آراء البشر المخاطبين به، بين الحرام الفردي والاجتماعي، عن الفارق بين من عرف فجحد، فهو كافر، وبين من جحد لأنه لم يعرف، فهو تحت رحمة الله، عن الفارق بين الإله والبشر، علم الإله وجهل البشر، يقين الإله وظنون البشر. خلق الإله للبشر، لا العكس، لو خلقتموهم لرحمتموهم، تحوّل الإله بدوره، في تصوّرات بعض الآلات البشرية إلى زعيم قبيلة لا يعرف إلا أصحابه، لا يرحم إلا أصحابه، لا يستمد معلوماته عن مخلوقاته إلا من أصحابه، ولا يحكم أو يحاسب إلا بما حكم به أصحابه. إله تفصيل، على مقاس التصوّرات الذهنية للإسلام الحركي، إله آخر غير الذي عرفناه، وعبدناه، ورضينا به رباً، ليس لأنه منا، فالإيمان غير الانتخابات، بل لأنه متعالٍ عنا، مختلف، ليس كمثله شيء، متعالٍ بحكمته، برحمته الواسعة، بعلمه اللدني الذي يتجاوز الظواهر. لو كان الله يحب ويكره، ويكافئ ويعاقب، بمعاييرنا الضيقة، لكانت كارثة، فهو لن يحب إلا من يحبّه، ولن يرزق إلا من يتقرّب إليه، ولن يرحم إلا من يعترف به، هذه الكارثة تجد الآن من يشرعن لها، وما أسهل العبث بالآيات وإنزالها في غير مواضعها، وهو أيضا أمرٌ قديم، ومكرّر، وله "شيوخه". الظلم من بوابات العدل، والاستبداد تحت لافتات الشورى، وعبادة الحاكم تحت رايات التوحيد. والآن وصلنا إلى نسخةٍ جاهليةٍ من الإسلام، انقلاب من الداخل، تدعمه نصوصٌ محرّفة وخامات تراثية، وخبرات سياسية، وصياغات سهلة وحدّية تغازل حماسة الشباب، وتواضع ثقافته، وتستثمر فيه، انتقلنا من التعليم المجاني إلى التعتيم المجاني. وصار الدين جهلاً، والتقرّب إلى الله همجية، وقسوة، وجلافة، ومن يقاوم ذلك فهو "كيوت" و"ممحون"، وغيرها من مفردات الزمن الرديء التي تجعل من الرحمة اتهاماً!
ما العمل؟ الحوار لا الصراع، والتفهم لا التجهم. السباب لن يحل المشكل. والغضب، والتأنيب، والازدراء، والعزل الاجتماعي، وفش الغل، لن تفيد. مبادلة الكراهية بالكراهية لن تفيد، بل ستزيد من معدّلات الكراهية، وتدعيمها وترسيخها، واستمرارها، واستمرار من يحكم بشرعها وشرعيتها. إنما هي المعرفة، والحوار، ولو مع أكثر الناس جهلاً، وأبعدهم عن قيم الحوار، فالحوار ليس اختياراً، بل اختبار، وعلينا النجاح أو الموت. الناس أعداء ما تجهل، أعداء الرحمة لأنهم يجهلونها، أعداء التجربة لأنهم لم يخوضوها. بدورنا، نعاديهم لأننا نجهلهم، نجهل أفكارهم، منطلقاتهم، فرقهم، والفروق بينهم، نتعامل مع ذلك كله باستخفاف واستسهال، ولذلك يتحوّل أي حوار إلى صراع، يغيب الفهم فيصعب التفهم، مهمة صعبة وقاسية، ولا يتحمّلها كل واحد، لكنه العلاج بالسم، فإما آلام الشفاء أو مسكّنات الشقاء.
دلالات