تزداد أزمة اليمن تفاقماً مع استمرار الصراع منذ سنوات، وتوالي الصدمات البيئية والأزمات الصحية، ليصل الأمر إلى تنصل الممولين من الوفاء بأهم احتياجات 80 في المائة من السكان شديدي الضعف
على الرغم من أنّ مكتب برنامج الغذاء العالمي في اليمن هو من أكثر فروع البرنامج تمويلاً في العالم، فقد تلقى ضربة تمويلية قاصمة مؤخراً مع فرار أكبر ممول لها، وهي وكالة التنمية الدولية الأميركية، بإيقاف تمويل المناطق التي تسيطر عليها جماعة أنصار الله (الحوثيين) الذين تتهمهم الوكالة والبرنامج بنهب قدر كبير من مساعداتها وإعاقة تحركات موظفي البرنامج وشركائها في المناطق وعدم قدرتها على الإشراف والرقابة. وكان من نتائج ذلك أن البرنامج قرر تقليص مساعداته لسكان تلك المناطق إلى النصف، ليزيد ذلك من معاناة السكان الذين لم يتسلم الموظفون العموميون من بينهم سوى راتبين سنوياً بدلاً من 12 راتباً، منذ عام 2016.
في هذا السياق، يؤكد المواطن عبد الله العنسي أنّ المنظمات لم تعد تسلّم في الآونة الأخيرة المساعدات له شهرياً، كما في السابق. يقول العنسي: "باتت المساعدات تسلّم لنا كلّ شهرين أو ثلاثة أشهر، مع العلم أنّها لم تكن تكفينا سابقاً عندما كانت شهرية وهي عبارة عن دقيق وزيت وفاصولياء وسكر". يشير إلى أنّ الوضع أصبح اليوم أكثر سوءاً: "أحياناً لا نتمكن من توفير أكثر من وجبة واحدة طوال اليوم. أشاهد أبنائي وهم يعانون من الجوع ولا أستطيع أن أفعل لهم شيئاً". ويؤكد العنسي أنّه يضطر إلى تكثيف ساعات العمل في قطاف شجرة القات وأعمال أخرى كي ينجح في توفير احتياجات أسرته: "كانت المساعدات تعيننا في توفير المال لشراء بعض المستلزمات للأطفال أو العلاج في المستشفيات في حال أصيب أحد أفراد الأسرة بأي مرض". ويطلب العنسي من المنظمات إعادة الانتظام في تسليم المساعدات ومعالجة الفساد الذي يتسبب في حرمانهم منها.
دفعت هذه الأزمة الإنسانية -الأكبر في حجمها ونوعها في اليمن خلال السنوات الماضية- من يحتاجون للغذاء إلى وسائل أكثر أذى لهم في سبيل التكيف مع أزمتهم. المعلم معين العميري يؤكد أنّه لجأ إلى طلب ديون إضافية من أقاربه الذين رفضوا الاستجابة بسبب تراكم ديونه السابقة لهم. يقول العمري: "لا نملك بعد ذلك سوى تقسيم السلة الغذائية التي نتلقاها كلّ شهرين من البرنامج إلى ثلاثة أجزاء؛ قسمان للاستهلاك بكميات اقتصادية خلال شهرين، والقسم الثالث نبيعه لتوفير متطلبات طحن الحبوب والطبخ، من غاز وتوابل أساسية وغيرها، مع اضطرارنا للتوجه إلى النوم ليلاً من دون وجبة العشاء".
وعن ممارسات الفساد المرافقة للعمل الإغاثي ودورها في حرمان كثير من الفقراء من هذه المساعدات، يقول أحد مالكي المباني السكنية في صنعاء إنّ المنظمات الإنسانية لا تبذل جهداً للتحقق من وصول المساعدات لمن يستحقها لتطبيق الإنصاف بين المتضررين. ويضرب مثلاً بمستأجر لإحدى شققه منذ عام 2010 يمتلك أسهماً في مشروع تجاري واسع وناجح: "لكن، لأنّ بطاقة هويته تشير إلى أنّه من مواليد محافظة صعدة معقل جماعة الحوثي، فقد تم تسجيله باعتباره ضمن النازحين في صنعاء وبذلك تم اعتماد سلة غذائية له، كما أصبح يطلب مني تسليمه نسخة من عقد إيجار الشقة من أجل تسليمها إلى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ليدفعوا له ثمن الإيجار". يضيف مالك العقار الذي اشترط عدم ذكر اسمه، أنّ مثل هذه الممارسات يحدث "في الوقت الذي تكاد بعض الأسر المستأجرة لديّ لا تجد ما تأكله وترفض المنظمات مساعدتها بمبرر ضعف التمويل وضخامة عدد الأسر المحتاجة".
هذه المستجدات ألقت بظلالها على فئة النازحين لا سيما في المناطق الخاضعة لسيطرة جماعة أنصار الله. وفي السياق، يؤكد النازح في صنعاء عمار علي تأثر أسرته مؤخراً من جراء الخلافات بين المنظمات والحوثيين التي انتهت بحرمانهم من جزء من المساعدات. يقول علي إنّ المنظمات باتت توزع المساعدات لهم كلّ شهرين بنفس الكميات السابقة التي كانت توزع شهرياً. يضيف: "اعتدنا على مساعدات غذائية نحصل عليها شهرياً، وبالرغم من أنّها لم تكن تلبي كلّ الاحتياجات فقد كانت تفي بالغرض إذ لا نجد مصادر دخل مناسبة".
في المحافظات الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية يبدو الوضع أفضل، فالمساعدات الغذائية ما زالت تسلّم شهرياً بحسب الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين. يقول رئيس الوحدة نجيب السعدي، إنّ المنظمات الدولية لم تقلل المساعدات الإغاثية للنازحين في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، وما زالت تصرف بشكل شهري ومنتظم، لكنّها أوقفت بعض المشاريع. يوضح السعدي أنّ المنظمات توقفت عن تنفيذ مشاريع في القطاع الطبي والصرف الصحي والنظافة وهي خدمات مهمة يحتاجها النازحون. ويطالب المنظمات بـ"توسيع دائرة التنسيق بين الوحدة التنفيذية وبين المنظمات لتحقيق أهداف التدخلات الإنسانية والإغاثية بشكل مثالي".
بات عام 2020 عام اندلاع الحرب العاصفة بين الحوثيين والمنظمات الإنسانية ومموليها بعدما ارتفعت مستويات المخاطرة بالنسبة للطرف الأخير طوال أعوام الصراع السابقة لتصل منذ بداية العام الجاري، إلى مستويات يصعب على المانحين والمنظمات التعايش معها.
مواطنون اتهموا جماعة أنصار الله والبرنامج بأنّهما من يقف خلف مأساتهم الخانقة، فيما الفقراء هم المتضررون من الخلافات القائمة بين الحوثيين ومكاتب المنظمات الدولية. من هؤلاء محمد اليريمي الذي يتهم برنامج الغذاء بتقديم التنازلات المتوالية لسلطات الأمر الواقع منذ سيطرتها على أجزاء كبيرة من البلاد، ما أضرّ بالناس وجعل تلك التنازلات "القائمة على الفساد وعلى زيادة وتيرة الحرب بمثابة حقوق لهذه الجماعات". يضيف: "كان من واجب البرنامج وقف عمله منذ اليوم الأول لضغوط جماعة الحوثي عليه، حتى يعمل بموجب مبادئه الإنسانية الذي يطبقه في كلّ بلدان العالم، لكنّ الجماعة لن تسمح للبرنامج بتطبيقها الآن بعد سنوات من تنازله عنها".
توقف كثير من نشاطات المنظمات كذلك، خلال الأسابيع الماضية. ونتج عن ذلك عدد من الإجراءات التي نفذتها المنظمات منها تخفيض وتسريح أعداد كبيرة من موظفيها وإعداد قائمة انتظار بأسماء موظفين إضافيين سيجري التخلي عنهم في حال استمر تعليق التمويل حتى نهاية أغسطس/ آب المقبل، بالإضافة إلى التوسع في النشاطات في المناطق الجنوبية والشرقية التي تسيطر عليها قوات الشرعية اليمنية والأطراف المتحالفة معها بالرغم من أنّ نسبة السكان فيها لا يتجاوزون 30 في المائة من إجمالي عدد السكان في البلاد.
وأغلقت منظمات كبيرة مثل "رعاية الأطفال" و"أوكسفام" و"سيف ورلد" وصندوق الأمم المتحدة للسكان، برامج حيوية لها في مناطق عمران، والحديدة، وصعدة، منها برامج خاصة بالصحة الإنجابية ودعم الصحة النفسية، وكذلك جميع برامج "بناء السلام" التابع للأمم المتحدة.
وتسعى وزارة الصحة والسكان الخاضعة لسيطرة الحوثيين في صنعاء لعرقلة أعمال كتلة الصحة (وهي مجموعة عمل للمنظمات الدولية والمحلية العاملة في دعم القطاع الصحي) بهدف السيطرة عليها وتوجيه أعمالها. ونتيجة لتلك المضايقات انتقل الاتحاد اليمني للقابلات، كاملاً إلى عدن ليصنع بذلك فجوة كبيرة مهددة لأرواح آلاف الحوامل وأجنتهن، كما تراجعت أعمال اتحاد نساء اليمن، وهو أكبر منظمة نسائية في البلاد، إلى أدنى مستوياته ولأول مرة في تاريخه.
ويعدّ ما التزم به ممولو الاستجابة الإنسانية في اليمن في يونيو/ حزيران الماضي متواضعاً جداً مقارنة بالسنوات الماضية بالرغم من تنامي التحديات والاحتياجات الإنسانية لا سيما مع ظهور فيروس كورونا الجديد. ويبلغ إجمالي ما تعهد به ممولو اليمن خلال العام الجاري 1.3 مليار دولار جرى دفع 42 في المائة منها بنهاية يونيو، ويتوقع بعض المراقبين عدم الوفاء به كاملاً.
وكانت المتطلبات التمويلية لخطة الاستجابة الإنسانية لليمن 2019 قد بلغت حوالي 4.2 مليارات دولار. وبحلول النصف الأول من عام 2019 تلقت خطة الاستجابة الإنسانية 1.17 مليار دولار من أصل 2.6 مليار دولار تم التعهد بها في فبراير/ شباط 2019، أي 45 في المائة من إجمالي التعهدات و27.9 في المائة من المتطلبات التمويلية لخطة الاستجابة الإنسانية. وغطى إجمالي التمويل المتاح لقطاعات الخدمات الاجتماعية الأساسية مثل الصحة والمياه والبيئة والتعليم، نحو 27.4 في المائة فقط من إجمالي المتطلبات التمويلية لهذه القطاعات.