كلّما ذكر اسم الروائي الأردني مؤنس الرزاز (1951 - 2002)، الذي تحلّ ذكرى رحيله اليوم، تستعيد ذاكرتي مغامرة مجموعة من القرّاء الشباب اتفقوا، قبل سنوات، على إعداد فيلم يتناول سيرة حياته بطريقة ساخرة تحاكي أسلوبه في الكتابة.
حينها، تم توزيع المهام والأدوار على المجموعة: السيناريو، الممثلون، المصوّر، المخرج. وكان لديهم صديق فائض تم منحه لقب مساعد مخرج. أما كاتب هذه السطور، فكان من نصيبه السيناريو. لم يكن ينقصهم شيء سوى الكاميرا والدعم المالي.
فكرة الفيلم تقوم على استنطاق جمعة القفاري - الشخصية الأكثر التصاقاً باسم الرزاز - ليروي لنا سيرة صانعه وفق الخطة الآتية: يتربّع جمعة خلف مكتب في غرفة سيئة الإضاءة ويبدأ بالكلام: "أنا جمعة النكرة.. ما غيره؛ ولكني لن أتحدث اليوم عن حياتي". ثم يسترسل مُتحدّثاً عن علاقته بالكاتب، وشيئاً فشيئاً ينتقل إلى تفاصيل حياته وأسرارها، وبين فواصل الكلام تم إعداد مشاهد على طريقة الـ"فلاش باك".
هكذا، صيغ المشهد الأول اعتماداً على مقتطف من سيرته الذاتية غير المكتملة. في دمشق، منتصف الستينيات، ينتفض الفتى في سريره على صوت الرصاص؛ ليدرك أن انقلاباً عسكرياً قد حصل على الرئيس أمين الحافظ وعلى والده منيف الرزاز الذي كان يشغل منصب الأمين العام للقيادة القومية لحزب البعث الحاكم في سوريا. وبينما كان الفتى يتساءل عن هوية الرصاص (الشيوعيون أم الناصريون؟)، ستصدمه إجابة الوالد: "هدول عمامك".
كان من المفترض أن يظهر هذا الاقتباس من مذكراته، عن حادثة انقلاب البعثيين على بعثهم، على الشاشة: "كان البعث في بالي الغض عشيرتي التي تحميني. كان الخوف في أعماقي، تلك الليلة، بلا وازع. وكنت مشوشاً لا أفهم اختلاط الأوراق هذا". إذا كان صاحب "أحياء في البحر الميت" يفهم سبب الاعتقالات التي تعرّض لها والده في الأردن على يد القوى الرجعية، فكيف له أن يفهم، إذاً، غدر الرفاق!
وعلاقته بوالده والمصير الذي انتهى إليه، تم وضعها - أثناء التجهيز للسيناريو الذي لن يكتب - كمسلمة أو مدخل لفهم عالم مؤنس الرزاز الروائي، على أساس أنها البنية المحركة لجميع رواياته. لذلك، كان من المفترض أن يتم إعداد مشهد أو أكثر عن مصيره مع رفاق العراق، حيث سيتم حجزه تحت الإقامة الجبرية حتى وفاته.
وسيخصص الكاتب روايته "اعترافات كاتم صوت" للحديث عن الأزمة التي عاشتها العائلة في هذه الفترة. الرواية التي سيتم اختيارها ضمن قائمة "أفضل مئة رواية عربية في القرن العشرين".
كان يمكن أن تتم الإشارة، في الفيلم، إلى أن هذا الاختيار الذي قام به "اتحاد الكتّاب العرب" جاء لأسباب سياسية، ألفناها من اليسار العربي. فلدى الرزاز روايات أهم منها وأكثر اشتغالاً على الأفق الإنساني مثل روايتيه "متاهة الأعراب في ناطحات السراب" و"جمعة القفاري: يوميات نكرة".
أشياء كثيرة كان بالإمكان إدراجها في السيناريو: الربط بين أبطال رواياته وروح دون كيشوت التي يتردد صداها في أغلب أعماله على شكل سخرية سوداء ظهرت منذ باكورة أعماله في "مد اللسان الصغير في وجه العالم الكبير". وحالة الارتباك التي عاشها وانسحابه واستقالته من المواقع التي شغلها مثل رئاسة "رابطة الكتّاب الأردنيين" ورئاسة "الحزب العربي الديمقراطي" في منتصف التسعينات.
تأتي إلى جانب ذلك، ولعلّها من المفارقات اللافتة في حياة الرزاز، علاقته بالعاصمة عَمّان، واشتغاله على إنتاج إنسان عمّاني في مدينة يرفض أبناؤها الانتساب إليها؛ فنجد فيها السلطي والكركي والخليلي والشركسي.. وحده مؤنس كان عمّانياً في عمّان.
غير أنّ رفاق الفيلم سيتفرقون قبل أن يجدوا مؤسسة تدعم مشروعهم أو حتى توفر لهم الكاميرا، ليبقى جمعة القفاري جالساً خلف المكتب سيئ الإضاءة، في انتظار إشارة البدء.