ليس للفلسطيني غيرَ فلسطين وطناً

18 مايو 2014

فلسطينيتان تنظران إلى بناء مستوطنة في أراضي عائلتهما

+ الخط -
تفتح ذكرى النكبة أفق الأسئلة على مستقبل القضية الفلسطينية، فالنكبة ليست حدثاً مضى، ولا هي واقعة تاريخية فحسب. إنها قبل ذلك حاضر متّصل. النكبة أمامنا، لأنها تاريخنا وذاكرتنا التاريخية في آن. هي أمامنا، ليس لأن نكبة جديدة تنتظرنا في فلسطين، كما قال صديق، ولا لأن الدولة الصهيونية تعمل من أجل تكرارها، بل لأن النكبة مغروزة في هويتنا، وعلامة فارقة فيها.
نعم هي نكبة، ولكن، ليس بالمعنى الذي يحلو لبعضهم قوله بخصوص أن الكلمة (وهي صارت اليوم مصطلحاً عالمياً) ليست صالحة، لأنها لا تشير إلى فاعل، و/أو تحيله إلى مجهول. إن ما حدث كان (نكبة)، لأن المصطلح يحيل إلى الشر المطلق، ويعيِّن ما حدث على أنه كذلك. في مصطلح "النكبة"، نؤكد على حقنا في الذاكرة. هكذا نفهم إجماعنا (على ندرة إجماعاتنا) على التمسك بحقنا في رواية قصتنا، وعلى أن هذه الرواية هي الوحيدة التاريخية، وما عداها لغو، غرضه تبرير الجريمة، وتغطيتها، وإصرار الفاعل على شرّه.
لم تخرج فلسطين من الخرافة. غطرسة القوة هي التي تجعل من الخرافة سلاح الشر المطلق. وإلا كيف يتسنى لقادمٍ من سديم الخرافة أن "يقترح"، بقوة المسدس، على ابن البلاد أن يقتلع نفسه من ترابه؟ وكيف يتسنّى لعصابات المستوطنين أن تفوّض نفسها اقتلاع زيتون فلسطين وتدمير حقولها؟

***
نعرف جميعُنا أن كلاً من التشاؤم والتفاؤل موقف من المستقبل؛ أي برنامجُ عمل وموقفٌ من الحاضر. في التفاؤل، يغدو إحياء النكبة تصميماً على التحرّر، أي على تصفية النكبة بما هي كذلك. وأسمح لنفسي بطرح فكرة قد تبدو استفزازية. بيان الفكرة أنه لا مبرّر للهلع الكبير الذي يسود ثقافتنا المتداولة بيننا اليوم، بخصوص القضية الفلسطينية. فما يمكن تصفيته في التاريخ ليست القضية الفلسطينية، بل الصهيونية، ومشروعها القاضي باستبدال أهل البلاد بغيرهم. 
 
القضية الفلسطينية تستعصي على التصفية، لأن النكبة تستعصي على النسيان، وليس لأن إسرائيل كفّت عن العمل على محو فلسطين. في "الداخل"، وليس في الشتات فقط، يؤكد الفلسطينيون على حق الشعب الفلسطيني في روايته التاريخية لهذه القصة التي تفوق الخيال. ينظّمون مسيرة العودة إلى لوبية في الجليل. عودةٌ فلسطينية يعلن الأهل فيها أن الغياب القسري عابرٌ كالريح. إنهم يدحضون، بالملموس، ما كان تمناه مقترفو جريمة النكبة: الكبار يموتون، والصغار ينسون. النكبة أمامنا، لأن صغارنا يتذكرون؛ ولأنهم يبعثون القرى المدمَّرةَ من تفاصيل قصة النكبة، ويحررونها من أنياب الخرافة المجنونة. ليس وقوفاً على الأطلال تذكُّر النكبة، وليس تحسّراً على فِردوس مضى، إنه موقف من الحاضر، وفي الحقيقة من المستقبل: ليس للفلسطيني غيرَ فلسطين وطناً.
***
كانت الصهيونية الكلاسيكية نفياً لليهودية، وصراعاً ضدها في الوقت نفسه، غير أن انتصار 1967 المذهل أحدث شرخاً عميقاً بمسار العلاقة بين دولة إسرائيل واليهود. كانت الحركة الصهيونية حركة أقلويّة بين اليهود الذين انتقدوها من مختلف المواقع السياسية والدينية. رفضها الإندماجيون، لأنها تجافي سيرورات هذا الاندماج وتهدده، ولأنها تنسجم مع أطروحات معاداة السامية؛ ورفضها المتدينون، لأنها أرادت إقامة دولة اليهود في الدهر، في حين أن الدولة اليهودية من عمل الله في آخر الأزمنة، وهذا هرطقة.
كان انتصار 1967 بداية التحوّل المتسارع لدولة إسرائيل إلى مركز للأصولية اليهودية، بعد أن كان هذا المركز خارجها، في أميركا وأوروبا الشرقية. وبعدما استُكْمِلت السيطرةُ على القدس وعلى ما تبقى من فلسطين الانتدابية، راج الاقتناع بأن هذا الانتصار المدوي هو علامة إضافية سعيدة من علامات النبوءة الألفية بقرب نهاية العالم، وبمجيء المخلّص. هكذا تغيّرت العلاقة بالدولة، فبعدما كانت مرْكزَ الأمةِ الجديدةِ قيد التكوين، أصبحت اليهوديةُ المكوّن الأساسي للدولة. وإلا لماذا يصرّون اليوم على أن يعترف الفلسطينيون بيهودية دولة اليهود؟ وكيف نفهم قرار المحكمة الإسرائيلية العليا، (ومهمتها بالمناسبة سياسية، وهي حراسة المعبد) برفض التماسٍ تقدم به يهود إسرائيليون، من أجل تغيير قوميتهم في سجل السكان من يهودي إلى إسرائيلي؟ لم يثبت وجود قومية إسرائيلية، تقول المحكمة في قرارها.
في كتابه "اختراع الشعب اليهودي"، يبيّن شلومو ساند كيف أن قضاة المحكمة العليا في دولة إسرائيل لا يجدون حرجاً في التوفيق المستحيل بين يهودية دولة إسرائيل وديموقراطيتها. أليسوا هم قضاة المحكمة العليا نفسها التي برّرت تعذيب المعتقلين الفلسطينيين؟
***
مع الزمن، تتهاوى أعمدة الرواية الإسرائيلية عن نكبة 1948. وتتهاوى معها أسطورة أن إسرائيل هي إضافة سعيدة في التاريخ، وتصحيح إيجابي لمساره. تهاوت كذبة أن الفلسطينيين تركوا بلادهم طواعية، أو تلبية لنداءات قادتهم. ولم يبق من لوحة الواحة الديموقراطية سوى صورة الكولونيالية من غير تزويق، والأبارتايد الذي يدفع قاتلاً من مستوى إيهود باراك إلى الاعتراف به. ولم يبق من خرافة أن جيش الدفاع الإسرائيلي هو الجيش الأخلاقي الوحيد في الكون غير صورة المستعمر العنصري، قاتل الأطفال ومهشّم العظام ومهدّم البيوت على سكانها. هكذا صار ممكناً لديمتري تشومسكي (في هآرتس، 14/5/2014) أن يقول إن طرد الفلسطينيين من وطنهم وقرار دولة إسرائيل منع عودتهم هو " فعل شرير". وأن الاستيلاء على أملاك جموع اللاجئين الفلسطينيين كان سطواً ونهباً جماعياً ووصمة عار أخلاقية. ويضيف: "كيف يمكن لدولة قامت لتكون ملجأ للاجئين من جحيم النازية أن تسوّغ أخلاقياً السطو على الاملاك الخاصة، والكرامة الوطنية، لشعب آخر؟".
دلالات
A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.