عن الأبارتهايد، وتقرير "العفو الدولية، وعنّا

25 فبراير 2022
+ الخط -

"ليست إسرائيل دولةَ كلِّ مواطنيها، بل الدولةُ القوميّةُ للشعب اليهودي، وله وحدَه، فحسب" (بنيامين نتنياهو: مارس/ آذار 2019).

لم أكن أنتظر، وفي الأصح لم أكن أتوقع، أن تدخل منظمة العفو الدولية (أمنستي) الميدان بكل هذه القوة؛ فقد تأخّرت هذه المنظمة المرموقة كثيراً جداً في دخول ميدان وسم إسرائيل ووصمها وإدانتها بالضرورة بأنها تهندس لنظام فصل عنصري، منهجي وكثيف ومُمأْسس، بحق الفلسطينيين، سكان البلاد وأصحابها الأصليين، ومالكيها بكل ما فيها من ماء وحجر وشجر. ويعود عدم توقّعي إلى أن معرفتي بهذه المنظمة لا تتيح لي أن أتوقع أنها ستبادر إلى فتح معركة، سياسية في أُسّها، مع إسرائيل وأنصارها الكثر في العالم؛ وهي المنظمة التي طالما حصرت استراتيجيتها وخياراتها في معارك الحرّيات الأساسية، وقصرت بياناتها وتقاريرها على الحريات والسجون والمساجين والدعوة إلى تحريرهم، وفي المحصلة، "أنسنة" السجون والدعوة إلى الالتزام بالمعايير الحقوقية والإنسانية.

التركيز على الحريّات السياسية كان بالنسبة لـ "أمنستي" أسّ الحريات جميعها، فحرية الرأي أُسُّ كلِّ حق

تعود معرفتي بمنظمة العفو الدولية إلى ثمانينيات القرن الماضي، حين كنت ناشطاً في ميدان حقوق الإنسان في باريس. وقد دُعيت أكثر من مرة في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي من فرع المنظمة في باريس، للتداول وللتحدّث عن تصوّراتنا، نحن العرب، لمفاهيم حقوق الإنسان، وتعريف هذه الحقوق. وهي، كما يعلم كلّ من يتابع الأمر عن كثب، ميدانٌ فسيح للتفسيرات، وبالضرورة للتعريفات، التي تحدّ في الوقت نفسه نطاقَ أو ميدان العمل الحقوقي.

كُنا، في الجمعية العربية لحقوق الإنسان، وهي الفرع الفرنسي للمنظمة العربية لحقوق الإنسان، ثم في اللجنة العربية لحقوق الإنسان، نؤكّد الحقوق الاجتماعية إلى جانب الحقوق السياسية. التركيز على الحريّات السياسية كان بالنسبة لـ "أمنستي" أسّ الحريات جميعها، فحرية الرأي أُسُّ كلِّ حق. كانوا يقولون دائماً إن ضمان الحريات الأساسية هي في أساس كل الحقوق الأخرى. من غير حرية الرأي والحركة، ينتفي كل حق؛ وهذا صحيح. كنت أفهم الأمرَ من منظار مكمّل وليس مناقضاً لهذا الفهم، فقد كان تأكيدُنا على الحقوق الاجتماعية، كالحق في التعليم والسكن والتداوي وعلى حقوق الشعوب في تقرير المصير؛ وبدهي أن قضية فلسطين كانت في لبّ حرصنا، وحرصي الشخصي، على توسيع نطاق التعريف، والحقوق، من الحقوق الفردية إلى الحقوق الجمعية.

لستُ متيقناً الآن إن كنتُ أو كنّا على خطأ. أتحدّث عن نفسي فقط. فلا حقوقَ من غير حرية، وتكفي نظرة سريعة إلى نظمنا العربية كافةً كي ندرك مبنى هذه المقولة، وفحواها الإجرائي على الخصوص. إذْ كيف تضمن حقوقَك في الصحة والسكن والتعليم، إلخ، إن كنتَ لا تستطيعُ أن تطالبَ بها و/أو يعقدُ الخوفُ المشروعُ لسانَك وحركتَك؟ أو كانت أجهزة الأمن تتعامل معك باعتبارك عدواً ينبغي لجمه وتكميم فمه ودرءِ أذاه؟

تأخّرت المنظمة المرموقة كثيراً جداً في دخول ميدان وسم إسرائيل ووصمها وإدانتها بالضرورة بأنها تهندس لنظام فصل عنصري

التقرير، في حقيقته، وثيقة تاريخية يضع الأمور في نصابها، وهي قضية الحقوق المنتهكة للفلسطينيين أفراداً وجماعات، ويفكّك، مدعّماً بالبيّنات والتوثيق، آليات نظامٍ قصْدُهُ وغايتُه حرمانُ الفلسطينيين من بلادهم وتفكيُك أواصرِهم وروابطِهم الاجتماعية، وتشييدُ معازلَ تمنعُهم من التواصل والتنمية المجتمعية والفردية. هو مرافعة أرجّح أنها رسمت خطاً كثيفاً في المعركة ضد الأبارتهايد الإسرائيلي ومن أجل مستقبل القضية الفلسطينية. وربما لخّص عنوانُ التقريرِ محتواه: "نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين؛ نظامٌ قاسٍ يقوم على الهيمنة وجريمة ضد الإنسانية".

ولتحديد ما إذا كانت إسرائيل قد أقامت وأدامت نظاما مؤسّسياً من القمع والهيمنة الممنهجين، تقولُ منظمةُ العفو الدولية أنها فحصت الطريقةَ التي تمارس بها إسرائيلُ سيطرتها على الشعب الفلسطيني؛ كما فحصت انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، التي من شأنها أن تشكّل الجريمة ضد الإنسانية، المتمثلة في الفصل العنصري، إذا ما ارتُكبت بقصد إدامة نظامٍ كهذا من القمع والهيمنة. درس باحثو "أمنستي" ومحققوها، إذن، سياسات إسرائيل التي تتعمّد قمعَ الفلسطينيين والهيمنة عليهم، والتفرقةَ القانونية، وشرذمةَ الأراضي، والحرمانَ من الجنسية والحياةِ الأسريةِ وعرقلتها، والقيودَ على التنقل وعلى الحق في المشاركة السياسية، ونزعِ الملكيةِ والممتلكات، والتخطيطَ وسياساته بغرض التمييز وتنمية الإفقار. هكذا توصّلت "أمنستي"، عبر تحليلها نظام الهيمنة الإسرائيلي، على أنه نظامُ أبارتهايد تُمارَسُ فيه كبائِرَ الجرائمِ، كالقتل التعسفي وتدميرِ المساكن والتهجيرِ وإحلالِ السكان والاضطهاد. كما تبيّن لها أن إسرائيلَ أنشأت "نظاماً مؤسّسياً يقوم على القمع الممنهج للفلسطينيين .. وأن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أنشأت نظامَ الفصل العنصري هذا، وحافظت عليه على مدى عقود في شتى أنحاء الأراضي التي سيطرت عليها، بغض النظر عن الحزب السياسي الحاكم في ذلك الوقت" (ص 23)

ليس هدف المقالة هنا استعراض محتوى التقرير، ولا القول بأهميته، فما هو جدير ذكره، في هذا المقام، أن "أمنستي" تعترف أن الفلسطينيين دعوا، منذ أكثر من عقدين، لتعريف "الحكم الإسرائيلي على أنه نظام فصل عنصري (أبارتهايد)". ودلالة هذا الاعتراف أن استجابة "أمنستي" تأخرت، من جهة، وأنها اعتمدت على بحوثها الخاصة واستقصاءاتها الخاصة، وقناعاتها الخاصة، وتوصلت، جرّاء ذلك، إلى إصدار هذا التقرير غير الاعتيادي، وتبنّيه وتحملّ مسؤولية هذا التبني، من جهة ثانية.

تقرير "أمنستي" وثيقة تاريخية يضع الأمور في نصابها، وهي قضية الحقوق المنتهكة للفلسطينيين أفراداً وجماعات

ثم إن "أمنستي" تقرّ بما يشكّل لبّ "الأبارتهايد": يميّز القانون الاسرائيلي اليهود كفئة تحظى بامتيازات ومنصوص عليها في القانون الإسرائيلي .. وتتعامل إسرائيل مع الفلسطينيين على نحو مختلف، على أساس نظرتها ذات الطابع العرقي العنصري إليهم باعتبارهم غير يهود وعرب .. وأن جوهر نظام القمع والهيمنة التلقائي على الفلسطينيين بلْوَرَه، بوضوح، قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل (قانون القومية) الذي رسّخ مبدأ أن دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، وأن الحق في تقرير المصير يقتصر على الشعب اليهودي.

التقرير، كما أشير أعلاه، نتائج بحث ميداني (بالمعنى الدقيق لمصطلح بحث ميداني) يسبُر آليات النظام الإسرائيلي في السيطرة على الشعب الفلسطيني وتدمير مقوّمات عيشه واستمراره، بما هو شعب، وكبح إمكانات نموّه وتطوره. والأبارتهايد هو، بالتعريف، مأسسة الاضطهاد بحق شعب آخر بغرض حرمانه من حقوقه وتأبيد استعباده بتوسّل عزله عن الجماعات الأحرى؛ وهو، في حالة إسرائيل، سرقة أراضيه وممتلكاته وبلاده وإحلال آخرين مكانه.

غير أن "أمنستي" تجاوزت أخيراً التخوم التي كانت خطّتها لنفسها ولأنشطتها، وألقت بتقريرها في وجه الجميع مع معرفتها المسبقة بالهيجان الذي سيُحدثه في الأوساط التي تنصُرُ إسرائيل مهما كلّف الأمر. إذ قبل أن يُنشرَ التقرير في مطلع فبراير/ شباط الحالي، أعلنت الخارجية الإسرائيلية أنه تقرير "معاد للسامية"، وكرّت السبحة في واشنطن وباريس ولندن .. إلخ. ولك أن تسأل كيف توصّل منتقدو تقرير "أمنستي" أنه تقرير "معاد للسامية" حتى قبل أن ينشر وتُعرف مضامينُه (277 صفحة باللغة الإنكليزية، منها ملخص تنفيذي من 35 صفحة)؟

ثمّة أمر يثير فضولي (وليس استغرابي في واقع الأمر)، هي حقيقة استسهال إطلاق الأحكام المطلقة بحق منتقدي إسرائيل وسياساتها، فنحن نعرف أن تقارير "أمنستي" التي أطلقتها وتطلقها بخصوص أوضاع حقوق الإنسان في كل مكان، في الصين والهند وسورية وغيرها، تلقى دائماً ترحيباً ويُتعاملُ معها باحترام خاص، لأن "أمنستي" تحرص، في تقاريرها وبياناتها، على الالتزام بدرجة عالية من الموضوعية، وعلى منهجيةٍ مشهود لها بالدقة والصرامة، والبعد عن التحيّز، بل والمبالغة بذلك. ثم أين هي الإحالات المعادية للسامية في تقرير "أمنستي"، وهي التي بحثت طوال أربع سنوات ووثّقت الوقائع على ضوء المعايير المتّبعة بهذا الخصوص، وبينتها في متن التقرير؟ غير أن الاستخدام المفرط لهذا السلاح يفقده فاعليته من غير ريب، كما تتبدى الأمور اليوم.

 تجاوزت "أمنستي" أخيراً التخوم التي كانت خطّتها لنفسها ولأنشطتها، وألقت بتقريرها في وجه الجميع

لا يتسع المجال للاستفاضة بهذا الخصوص. أختتم بالإشارة إلى أمرين. أوّلهما، أن الحملة ضد التقرير تتخذ بعدين. الأول، الضغط على الحكومات الغربية كي تعلن رفضَها التقرير، بالزعم أنه معاد للسامية. هذا ما يفعله مثلاً أنصار إسرائيل في فرنسا الذين أطلقوا عريضةً يطلبون فيها من السلطات الفرنسية رفضَ التقرير، أسوة بغيرها من الدول أمثال أميركا وغيرها. والثاني تشويه صورة "أمنستي" نفسها على أنها منظمة معادية للسامية، والضغط على أعضائها ومكاتبها وغير ذلك.

وبهذه المناسبة، من الضروري جداً تأكيد أن نظامَ الفصل العنصري الإسرائيلي ما زال متماسكاً؛ وأن إصدار "أمنستي" تقريرها لا يعني نهاية الأبارتهايد ولا بداية هذه النهاية. علينا أن نكثف الجهود، فقد اعترفت المنظمة بواقعٍ كنا، نحن الفلسطينيين، نؤكّد عليه منذ ربع قرن، ولم يمنع هذا التأكيد إسرائيل من أن تُمعنَ في مأسسةٍ نظام الفصل العنصري الذي استنّته منذ البدايات ولم يُلجمها عن استصدار (قانون قومية الدولة) الصادر في 2018 الذي يرسّخ هذه المأسسة.

تبقى ملاحظة تتصل بهذا الصمت العربي الكثيف إزاء التقرير. هل يعود سببه إلى أن نظمنا العربية، جميعها، تتعامل تاريخياً مع منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان بريبة، وتُشكّك دائماً بتقاريرها ونياتها؟

A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.