الدولة العربية والتطبيع

03 مايو 2021
+ الخط -

أفتتح لتحاشي كلَّ لَبْس: ما يأتي ليس نصاً عن التطبيع بما هو كذلك، بل عن الإطار الذي يتيحُ التطبيعَ و/أو يهيئ له الظروف، وعن السياق الذي يحدث فيه، وبالضرورة، عن النظام السياسي الذي يُطبّع. لكنّ النص هو كذلك مرافعة ضد التطبيع، وفي الوقت نفسه، مساءلة بخصوصه، وسعي إلى الإجابة عن قضايا يثيرها التطبيعُ نفسه. إذ كيف يمكن تفسير واقعة أنّ الحكومات العربية الأربع التي طبّعت أخيراً مع دولة "إسرائيل" فعلت ذلك بيُسْر، ولنقل إنّها لم تُبدِ أية مقاومة أو ممانعة يُعتدُّ بها في مواجهة الضغوط الأميركية على الخصوص؟
كيف يمكن تفسير سهولة "استسلام" أربع حكومات عربية (لا أقول دول، إنّما نظم سياسية) للـ"صفقة" التي عُرِضت عليها من إدارة أميركية آفلة أو في طريقها إلى الخروج من "الحلبة"؟ حتى لو وافقنا على القول إنّ الغرض من فعل التطبيع التحالفي هو دعم إدارة ترامب انتخابياً، غير أنّ هذه الحكومات تعلم أنّها، في الوقت نفسه، تدعم نتنياهو، أي الأشد عداوة وعنصرية إزاءها هي نفسها.
... مع التطبيع، ما عادت القطيعة مع القضية الفلسطينية رغبةً مضمرة، أو سياسةً تتأرجح في تخوم الضرورات، كما هو بالفعل، أي في التاريخ؛ صارت سياسة (استراتيجية؟) معلنة تتدرّج باتجاه الترسّخ والتعمُّق. يكفي مراجعة ما كُتب وقيل بهذا الخصوص في الساعات والأيام الأولى غداة الإعلان عن التطبيع الإماراتي - البحريني ثم السوداني والمغربي. وتكفي مراقبة السياسة الإماراتية على الخصوص؛ يغرّد سفير الإمارات في تل أبيب مهنئاً إسرائيل بعيد "استقلالها" ويظهر حكام أبوظبي اندفاعاً نحو إقامة تحالف استراتيجي مع تل أبيب يشمل "الاقتصاد" والسلاح والحرب. وهكذا يضع التطبيعُ بعضَ الخليجِ (أقول: بعض) في مواجهة مشرقٍ منهك تتآكله التمزّقات والانشقاقات، وتعوزه القدرة على مواجهة هذا الانشقاق... التطبيع إذاً، فعل مزدوج: انشقاقٌ عن الكتلة وتاريخها، وتطبيعٌ مع هذا الانشقاق، في آن.

إزاحة الواقع أو نكرانه تبدو أنّها اليوم السمة الراجحة لدى جلّ تيارات مقال الهويّة السائد حالياً

تتكشّف "حكاية" التطبيع عن أنّ علاقةَ العرب بفلسطين هي، كما كنت كتبت قبل أكثر من ثلاثين سنة، ملتبسة، فثمة جانب مركزي في هذه "الحكاية" يجب وضعه تحت المجهر هو جانب "الذي لا يُقال"، أو الذي لا يُرادُ له أن يُقال. معنى ذلك أنّ علاقة الدولة العربية (= الدولة "القُطرية؟" بحسب المقال العروبي) بفلسطين لا يمكن أن تكون سوى ملتبسة؛ لأنّها مبنية أولاً على المُضْمر الذي لا يُباحُ به، ولأنّها مبنيةٌ ثانياً على المسافة القائمة (الضرورية؟) التي لا تنفك تتّسع بين القول والفعل، بين السياسة والممارسة، أي السياسة المحكية التي "يُحللها"، وبالأصح يرطنُ بها "الخبراء" و"المحللون" "الاستراتيجيون" الذين يتكاثرون كالفطر، ويقولون على الأغلب كلاماً لا يقول شيئاً.
ولأنّها كذلك، أي مبنية على المسكوت عنه في السياسة اليومية وتجلياتها في الخطاب؛ فهي، في أُسّها، سياسة إنكارية للواقع وإزاحة له. ونحن نعلم أن تغييب الواقع أو نكرانه من سمات كلّ استبداد، وربما من مستلزماته. ثم إنّ إزاحة الواقع أو نكرانه تبدو أنّها اليوم السمة الراجحة لدى جلّ تيارات مقال الهويّة السائد حالياً. أليس الخطاب الظافري هو الأكثر "بلاغة" وهيمنة ورواجاً في زمن التحلّل والتفسُّخ الذي نعيش؟ مساءلة سيرورة هذه العلاقة الملتبسة بين شعارات (كليشيهات) النظم العربية بخصوص الموقف من القضية الفلسطينية وسياساتها الفعلية، أي بين سيرورة تشكُّلِ المسافة التي ما انفكّت تتسع في التاريخ بين الفعل والقول، بين الأشياء والكلمات. أما لماذا المساءلة فلأنّها تكشف أولاً عن تهاوي مجموعة من المعايير أو من الكليشيهات (بحسب ساري حنفي). وفي الحقيقة، عن الفجوة الكبيرة التي ما انفكّت تتسع بين القول السياسي والفعل السياسي؛ وعن أنّ الوقائع تجافي الكلامَ الذي لا يقول شيئاً عن أنّ قضية فلسطين هي القضية المركزية للنظام العربي. غير أنّ هذا كان، في أحسن الأحوال، في الماضي، أي قبل أن تتسعَ الفجوةُ بين القول والفعل، وتكفَّ جامعة الدول العربية عن التردّد في إفشال قرارات فلسطين وفي تبني ما يخالفها. وحين اضطرّت فلسطين إلى أن تنسحب بشكل "رمزي" من الجامعة، احتجاجاً على تهميشها في أروقة جامعة الدول العربية.

التطبيع، في أسّه، انهيار سياساتٍ كانت أُعلِنت أنّها مواقف ثابتة، أو نهائية

ليست المسألة لعباً بالكلمات، فالموقف من القضية الفلسطينية هو في أُسّه الموقف من الغزو الصهيوني للعالم العربي، وهو منذ بداياته مرتبطٌ بمسائل التقدّم والبناء والنهضة والديمقراطية. ومن البيّن أنّ الانقطاع بين القضية الفلسطينية وهموم شعوب المنطقة، وقضاياها، صار الخلاصة الكارثية على الجميع، نظماً وشعوباً وقضية. فما عادت القضيةُ، جرّاء هذا الانقطاع، تحمل وعداً تحرّرياً للشعوب التي ترزح تحت وطأة الاستبداد والفساد؛ وكفّت عن أن تبشّر بغدٍ أفضل لأناس حوّل الطغيانُ بلدانَهم إلى سجون ينتظرون لحظة نجاتهم منها. وإذ اتسعت قدرة النظم على الاستحواذ على "القضية" واستخدامها، اتّسع الانفكاك الفعلي عن "القضية" المركزية لصالح الهموم، التي ما انفكّت وطأتُها تتعاظمُ على نحو يتعذّر على الشعارات القومية ترميمه وإصلاحه.
... ما سبق يعني أنّ اختزال قضية التطبيع إلى تصوّرات الخيانة والعمالة، أي عمالة الحكومات التي طبّعت، ضارّ لا يفيد لا في فهم المسألة من حيث هي كذلك، ولا في خدمة القضية الوطنية التي يفترض أنّه ينصرها، فما التطبيع، في أسّه، غير انهيار سياساتٍ كانت أُعلِنت أنّها مواقف ثابتة، أو نهائية، وغير إعلان فصيح عن هذا الانهيار؛ وهو لم يغدُ ممكناً إلا حين أصبح الانتقال من المُضْمَر المسكوت عنه إلى المُعلَن ممكناً كذلك؛ هو سيرورة تاريخية، وينبغي النظر إليها من حيث هي كذلك، أي من حيث هي نتيجة تراكمٍ تاريخيٍ كان الضغط الأميركي أيام ترامب وصهرِه كشّافَه والعنصرَ المسرِّع فيه.
ولن ندخل في تفاصيل التسلطية العربية وآليات هيمنة النخب على ثروات البلاد، فما يعنينا هنا فهم لَبْس علاقة النخب الحاكمة في بلاد العرب بالقضية الفلسطينية. وبهذه المناسبة، فإنّ سيرورة تراجع موقع القضية الفلسطينية في "جامعة" الدول العربية ينبغي أن تكون بحد ذاتها موضوعاً لدراسة مخصوصة: دراسةٌ لبيانات الجامعة التي تُصدرها دولُها حين تجتمع، من جهة، وترصدُ مدى تطابق، أو تنافر، الفعل السياسي لدولها مع هذه البيانات، من جهة ثانية، وتعاينُ لغتها الخاصة أي استراتيجيتها اللغوية (في الحقيقة التعبوية) لتبرير هذه السياسات، من جهة ثالثة.

جذور التطبيع الحالي ترجعُ إلى الإطار العام الذي رُسِمت في تخومه بنى المنطقة العربية، وحدّدت أسيقةَ الفعل السياسي واعتباراته التي رافقتها

قلت إنّ المعنى المباشر للتطبيع أنّه الإفصاح عمّا لا يقال. ولهذا صلة بيّنة بعلاقة "النخب" الحاكمة وبنى السلطة بالعمل السياسي نفسه، وبالسياسات العربية بخصوص الحرية والاستبداد والتنمية، وليس بخصوص فلسطين فحسب. أنت تتحدّث عن الحرية، وعن التنمية والعدالة إلخ، بينما أنت تبني شبكة مصالح عائلية وزبائنية؛ تتحدّث عن السيادة، بينما أنت في الواقع تنتهكها لتأمين مصالح أهل السلطة وناسها. تتحدّث عن التحرير، في حين أنت منشغل كلية بألف قضية وقضية تبعدك عنه.
ولئن كان تنظيم السلطة السياسية، وكيفية ممارستها سلطاتها وعلاقتها بالجماعة التي تتحكّم بها، من أفراد وجماعات، والمؤسسات التي تجسد هذه الممارسات، هو بالضبط جوهر العمل السياسي ومحتواه، وليست شكله أو إطاره فحسب، فذلك لأنّ السياسة لا تخضع لكلامها أو لإيديولوجيتها، بل لحاجاتها أو ما تراه كذلك.
أميلُ إلى ترجيح فرضيةٍ بيانها أنّ جذور التطبيع الحالي ترجعُ إلى الإطار العام الذي رُسِمت في تخومه بنى المنطقة العربية، وحدّدت أسيقةَ الفعل السياسي واعتباراته التي رافقتها. ولا يخفى أنّ خريطة سايكس - بيكو هي بالفعل، وليس بالرغبات، الإطار العام الجغرافي لتاريخ ما اصطلح عليه اسم "عصر النهضة العربية"؛ وفيه تتموضعُ إسرائيل ضامناً لهذا الإطار وعنصراً من عناصره في آن. وفيه كان التاريخ الخاص بالشعب الفلسطيني مغايراً، بالضرورة، للتاريخ الخاص بالشعوب العربية الأخرى. فإذ كان يسير باتجاه الاقتلاع والنفي والتمزيق، كانت الشعوب العربية الأخرى تسير باتجاه التكوّن شعوباً لدولٍ مبدأها السيادة (أركز على السيادة). معنى هذا أنّ تزامن الاستقلال الوطني وتأسيس دولة إسرائيل كان، في أحد أبرز جوانبه، إعلاناً أنّ تاريخَ المشرق العربي المعاصر يتمفصل حول خريطة سايكس - بيكو، وأنّه محكوم بتفاصيلها بكلّ ما تعنيه الكلمة. وأرجِّح أنّ واحداً من معاني حرب حزيران (يونيو) 1967 أنّها كانت مسعى إلى إعادة ضبط خريطة سايكس - بيكو وترميمها.

في غياب الديمقراطية، وتقاليد التداول السلمي للسلطة، يصبح بقاءُ المجموعة الحاكمة أسبقيةً على ما سواها من القضايا التي تمسّ البلادَ وسيادتها، وتصبح قضيةُ فلسطين قضيةً "خارجية"

نعرفُ أنّ التاريخ الفعلي، أي التاريخ الذي سار في الزمان وليس في الرؤوس والرغبات، يجافي الصورة التي صارت تقليدية، بخصوص أنّ النهضة العربية بدأت بالتحرّر من السلطنة العثمانية، وباكتشاف الهوية العربية من حيث هي سياسية، وبالسعي إلى إشادة الدولة العربية الواحدة أو المتحدة، صعوداً نحو العمران والتقدّم والوفرة، غير أنّ الوقائعَ جافت الأفكارَ والإيديولوجيات، وعاكستها على طول الخط. نجم عن ذلك أنّه مع تراجع المسيرة عملياً، تراجعت الطموحات وتقلّصت نظرياً: من الدولة العربية الجامعة، إلى الاستقلال الوطني؛ ومن التحرير الكامل، إلى حماية الجزء المحرّر؛ ومن الأخوة العربية إلى الأخوة الوطنية إلى الأخوة الطائفية؛ ومن التاريخ العام للعرب إلى التاريخ الخاص بالأوطان؛ ومن أمة عربية إلى شعوب عربية، إلى أمم عربية في طريق التكون، و/ أو" تكونت" وصارت ناجزة.
إلى ذلك، هناك المشكلات المستعصية التي تجعل من أوليات بقاء النظام السياسي و/ أو السلطة الحاكمة واستمرارها في الحكم مسألة حياةٍ أو موت بالنسبة لها. وفي غياب الديمقراطية، وتقاليد التداول السلمي للسلطة، يصبح بقاءُ المجموعة الحاكمة أسبقيةً على ما سواها من القضايا التي تمسّ البلادَ وسيادتها، وتصبح قضيةُ فلسطين قضيةً "خارجية" يمكن التعامل معها من حيث هي كذلك. هذا الانفكاك أو الانفصال هو الذي مهّد للتطبيع، ووضع أرضيته الفعلية.
وتشكّلُ فرضيةُ التواصل العضوي بين الماضي والحاضر العربيين واحدةً من سمات الاستلاب السائد بيننا؛ ذلك أنّ تاريخَنا الحديث كلّه هو في مضمونه تاريخ انقطاعاتٍ مستمرّة مع الماضي، أي مع ما سبقه من "تواريخ". فتأسيس دول "سايكس – بيكو" هو قطيعة حاسمة مع الماضي، وبدورها تشكل الاستقلالات قطيعةً مع لحظة التأسيس، واستمراراً لها في الوقت نفسه. وغني عن القول إنّ نظمَ الاستبدادِ هي قطيعة مع الماضي القريب في داخل منظومة سايكس - بيكو؛ أما نكبة فلسطين، فهي، منذ وعد بلفور، قطيعة مزدوجة: مع الماضي العثماني القريب، ومع دول سايكس بيكو، من حيث شكلت الاستثناء عن القاعدة العامة: خُصّ الفلسطينيون بـ"النكبة"، في حين خُصّ الآخرون بدول.

الدولة الحديثة هي بالتعريف، الدولة القومية، أو دولة الأمّة السيّدة

إلى ذلك، أختتم بملاحظة ما زالت بحاجة للتدقيق بخصوص ما ألمسه لدى بعضهم من ميل نحو مأسسة خريطة سايكس – بيكو أي نحو القبول بها نظرياً. وأكتفي بمثل واحد فحسب، فالمعارض السوري حازم نهار يكتب (المدن في 07/02/2021) عن "أمة" سورية من الضروري بناؤها. ما أثار اهتمامي هو استخدام مصطلح جديد كل الجدّة على لغة السياسة السورية، معارضة كانت أم موالاة. فالأمة، في الكلام السياسي السوري، وفي لغة الجماعة الوطنية السورية، هي كلّ العرب؛ في حين أنّ البلدان العربية هي "أقطار" من وطن هذه الأمة العربية المتكوّنة من مجموعِ شعوبِ هذه الأقطار. وسورية هي قطر "عربي"، وشعبها هو الشعب العربي السوري. في السياق السوري، تتمثل جدّة المصطلح في أنّه يكسر، أولاً، المسافةَ الفاصلة أو الفارقَ بين السياسة بما هي سياسة، أي ممارسةً يومية وكما تجري في التاريخ، ولغتها؛ فالسيادة تتصل بدولة الأمة، وبناءُ الأمة يتحقق ببناء الانتماء الجمعي. من الجليّ أنّ حازم نهار يقصد ما قال؛ وتبدو مقولاته، للوهلة الأولى، على قدرٍ من التماسك المنطقي ومن الانسجام مع "طبائع" الأشياء اليوم. وهو، بمعنى ما، يقاربُ القضية من منظار الفقه السياسي الحديث، فالدولة الحديثة هي بالتعريف، الدولة القومية، أو دولة الأمّة السيّدة. أكتفي بالإشارة إلى الدلالات التاريخية والسياسية لمقال نهار، وأتوقف لديها. ذلك أنّ المعنى المباشر يتصل، كما لا يخفى، بأوّليات العمل السياسي وبنيته قبل اتصاله باللغة السياسية و/ أو بسياسة اللغة. وبكلمة: تشكّل هذه الدعوةُ إلى بناء أمة سورية قطيعة مع المقال العروبي المنغرز في الوعي السوري، ومع القول إنّ الدولة السورية الحالية هي دولة ما تبقى من الشام واعتراف بهذه الدولة في آن.
لكن، كيف ينقضُ التاريخُ الواقعي، التاريخُ الحادث في الزمان، تاريخَ الفكرةِ بمثل هذه القسوة؟ وكيف يغدو التاريخ السائر في الرؤوس عنواناً على الإخفاق: إخفاقُ الفكرة، وإخفاق الجماعات البشرية التي تتحرّك في هذا التاريخ؟

A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.