25 فبراير 2022
ليس في ذمّ كورونا
نُصّب عدواً؛ فقد ارتُقي به بالتدرّج من مرتبة الوباء إلى مرتبة الجائحة، إلى مرتبة العدو الذي تنبغي مواجهته بحرب تليق بهذه المرتبة المكتَسَبة، وتليق بنا.
في البدايات، في السادس عشر من مارس/ آذار، وقف الرئيسُ الفرنسي الشاب، إِيمانويل ماكرون، بصفته قائداً عاماً للبلاد الفرنسية وجيوشها، وأعلن أنه استجاب للتحدّي: إنها الحرب، وستكون نتائجها مكلفة، ولكن الدولة الفرنسية ستضمن أعباءها وتكلفتها. وأمرَ النّاس، في المقابل، بالتزام التعليمات المتعلّقة بالحجر تحت طائلة العقوبة. ولكن كوفيد - 19 فيروس، وليس جرثومة؛ فالجرثومة، بحسب "لسان العرب" وغيره من المعاجم، هي الأصلُ: "أصلُ كلّ شيءٍ ومجتمعُه". و"كتاب الجراثيم"، المنسوب لابن قتيبة، هو من أصناف معاجم المعاني، أي أصول الكلمات. ومع ذلك، نحن نعرف أن كورونا ليس عدواً كما يقول كثيرون. هو ببساطة، وباء نجهل عنه كلّ شيء، وفي الوقت نفسه، نتقوّل بخصوصه بكل شيء. أطلق كورونا العنانَ لكل هذر ولكل قولٍ ممكنٍ ولكل لغط.
ما هو عدوٌ في كورونا يكمن فينا: هو هذا الذعرُ الكثيفُ الذي يلّف جهلَنا بخصوصه، وهو هذا الخَواءُ الذي يكسو معارفَنا التي طالما ظننا أنها سلاحُنا الأمضى للسيطرة على الطبيعة، وللتفوّق على كلّ طلسم. يترعرع الخطر في كورونا داخل الحاجة الكثيفة لسَبْره، التي تنمو مع استعصائه على السبر.
ليس كورونا تحدّيا، كما يقولون، بل هو نقض موجع لنظام الأوهام والأساطير الذي ترسّخ، مع الزمن، على أنه لا يميد. هكذا يبدو كورونا أنه تذكير بأننا استكَنّا إلى حضارةٍ ظنَنّا أن معارفها راسخة، وشيّدنا عالماً بالاستناد إلى علوم اعتقدنا أنها يقينية. بهذا المعنى، كورونا جرثومةٌ، لأنها تعيدنا إلى الأصل؛ إلى التساؤل: من نحن؟ ولأنها تحثّنا على استعادة أسئلة سقراط بخصوص معارفنا، وعلى الوعي بأنها نسبية، رجراجة لا تفضي إلى يقين.
*****
ثمّة كلام كثير ينْتَحُ من لغة لا تعني ما تقوله؛ لغة لا تقول شيئاً. فبين "حرب" أعلنها الرئيس
ماكرون في منتصف مارس/ آذار، وجيّش لها الإدارة الثقيلة لدولته المركزية، وإنسانية يقول بها الرئيسُ الألماني، شتاينماير، بافتراض أن المسألة ليست حرباً، بل فرصةً لاستعادة إنسانيتنا التي تسرّبت من بيننا، ولأنسنة الكائن البشري الذي يقطن فينا، عليك أن تختارَ لغتك التي تفترضُ، أو تُقنعُ نفسَك، أنها تتحلى بالوضوح.
السياسيون في حيرة من أمرهم وأمر هذا الفيروس. ماذا يفعلون؟ يقولون إنّهم يستندون، في قراراتهم، إلى هيئةٍ علميةٍ عليا في البلاد، أي إلى فريق من أبرز العلماء يقدّم لهم المشورة والنصح. ولكن هؤلاء العلماء يقولون من غير توقف إنهم لا يعرفون كورونا. هؤلاء معارفُهم لا تنطُق. هكذا وجد الرئيس ماكرون، بعد أقل من شهر من إعلانه "الحرب" على كورونا، أن عليه أن يعترف، بما يشبه التوبة، أن "الحرب" هذه متعذّرةٌ، لأن قراره بخصوصها استند إلى معارف هي، في الوقت نفسه، كما قال في كلمته في 13 إبريل/ نيسان، "جزئية" و"متغيرة"، أي سريعة التقلب؛ وأن الأمر يتطلب انعطافةً لا تمَس كورونا فقط، بل كلّ الاستراتيجية المتبعة حتى لحظة إعلان "الحرب".
كورونا جرثومة تُسْكِتُ الكلامَ وتمسحُ اللغات. يقول لنا إن لغتنا لا تقولُ شيئاً. هو لذلك عدو مهينٌ، كما كتب حازم صاغية. مهينٌ لأنه لا يترك لك حتى فرصةَ مواجهته، ولا التعرّف عليه، ولا حتى تعريفه. يستعصي كورونا على التعيين. كورونا لا حدّ له. ولا أحد يقدر على وصفه. تكمن إهانته في أنه ضئيل إلى درجة أنه لا يُرى، ولكنه مربك للكبار من حيث قابليته على المراوغة، فالرئيس الأميركي الذي أثبت المسحُ المخبريُّ سلامةَ بدَنِهِ من الفيروس، تبيّن، بعد أقل من أسبوعين، أن رئاستَه كلّها تترنح جرّاء هذا الكائن الذي لا يُرى.
انتهت حرب ماكرون بأن يحظرَ المجتمعَ عن الاجتماع. كلٌ في مِحْجرِه لا يَمِسّ ولا يُمَسّ. ما عليك سوى الانحباس والابتعاد عن المجتمع . على الحيوان الاجتماعي الأرسطي الذي فيك أن
يتخلى عن الشطر الاجتماعي الذي فيه. هل هذا يُفسّر ازدياد وتيرة العنف المنزلي في الانحباس المنزلي؟ ليس هذا هو السؤال الصحيح. الصحيح هو أن كورونا، الذي لا يُرى، عرّانا من "حضارتنا" ووضعنا تحت مجهره الذي يكشف كلَّ مستور، وبيَّنَ أن كلّ ما كنا نعتبره نهائياً ومعرفةً قاطعةً ليس كذلك. هكذا أنهى كورونا كلّ نهائي، وربما فتَحَ التاريخ.
من حيث هو مجهول، أي غُفْلٌ، يحثُّ الفيروسُ كورونا الناسَ على التواضع، على ترجيح اللاأدرية، على اللايقين، وربّما على الصمتِ والتأمل. كورونا هو رسالةٌ كثيفةٌ بفصاحتها في أن علينا أن نعتادَ على العيش ضمن اللايقين، أن المجهولَ الغامضَ جزءٌ من المعرفة، وأن الغامضَ يُوضّحُ الذي يبدو أنه واضح، ويُسائله. والحقيقة أن كورونا سرعان ما تحّول إلى مادة خصبة للتأمل وإلى معين لا ينضب للثرثرة، أي للكلام الذي لا يقول شيئاً. صحيح أن كورونا فيروس، ولكنه غدا، بسرعة فلكية، ظاهرةً اجتماعية، أي سياسية، وبالضرورة موضوع نزاعاتٍ وسجالاتٍ لا حصر لها، ليس الصراعُ الانتخابي غير إحداها. وهو بالتأكيد تحدٍ يواجه الفيلسوفين العجوزين، يورغن هابرماس وإدغار موران، ومن هم على شاكلتهما.
ولكن أكبر إنجازات كورونا أنه فتح الأعينَ على أن الدولة المدعوّة ليبراليةً متوحشةٌ بالفعل؛ وأنه فرض على حكومات متغطرسةٍ أن تعترف بأهمية دور الدولة في صون المجتمع وفي حمايته من التفكك. هكذا ذكّرنا الفيروسُ كورونا إياه بالعجوزين عبد الرحمن بن خلدون ونيكولا ماكيافيلي، بخصوص أن المهمة المركزية للدولة هي الحفاظ على المصالح العامة، وليست حماية الأسواق، لأن الدولة هي، بحسب لغة ابن خلدون، سُوق العالم.
******
في كورونا جانبان نقديان، يُكتفي هنا بالإشارة إليهما: أولهما، كشفه عمّا يتعذّرُ دحضُه عن ابتلاء
بعض البلدان، الكبيرةِ منها والصغيرة على السواء، بإدارات حاكمة شديدةِ السوءِ، وعديمة المسؤولية الأخلاقية والسياسية، بحيث أججت اشتعال الوباء، وسرّعت من انتشاره، في الوقت الذي قالت إنها تقاومه. أما ثانيهما، وهو الأهم، فيتعلق بالدولة الاجتماعية، أي بوظيفة الدولة الأساسية، وهي صيانة المجتمع، وتعزيز عمليات تدامجه، وحمايته من التفكّك. ونحن نعرف الآن أن هذه الدولة الاجتماعية جرى العملُ على تفكيكها، ونزع شرعيتها، وتبخيس وظائفها، وتقويض الأسس النظرية لهذه الشرعية، منذ إدارة الرئيس الأميركي الراحل دونالد ريغان (1981 – 1989) وحليفته البريطانية مارغريت تاتشر (1979 – 1990)، وأن عمليات هذا التفكيك تسارعت وتيرتها، واتسع نطاقها مع المحافظين الجدد إبّان إدارة الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الابن (2001 – 2009)، وتفاقمت مع إدارة الرئيس الأميركي الحالي، دونالد ترامب، على وجه الخصوص. هكذا يمكن القول هنا إن كورونا نبَّهَنا إلى البعد التدميري في الحضارة الرأسمالية الحديثة كما أُسسنا لها في القرن العشرين على الخصوص، وأن الريغانية، بمختلف أشكالها، قادت العالم إلى ما نحن عليه اليومَ من تدهور بيئي واحتباس حراري وهشاشة صحية وتربوية، وغير ذلك، مقابل قدرةٍ لا نظير لها على التدمير الشامل، وتسابقٍ مجنونٍ على امتلاك أسلحته ووسائله.
إننا ندفع اليوم ثمن تلك السياسات التي بدأت في ثمانينيات القرن الماضي، ويمكن تلخيصها في أنّها وضعت الإنسان في خدمة الاقتصاد. وأختصر موقفي بالقول بضرورة إعادة "اختراع" الدولة الاجتماعية، وبناء شرعيتها على أسس الحقوق الإنسانية.
ما هو عدوٌ في كورونا يكمن فينا: هو هذا الذعرُ الكثيفُ الذي يلّف جهلَنا بخصوصه، وهو هذا الخَواءُ الذي يكسو معارفَنا التي طالما ظننا أنها سلاحُنا الأمضى للسيطرة على الطبيعة، وللتفوّق على كلّ طلسم. يترعرع الخطر في كورونا داخل الحاجة الكثيفة لسَبْره، التي تنمو مع استعصائه على السبر.
ليس كورونا تحدّيا، كما يقولون، بل هو نقض موجع لنظام الأوهام والأساطير الذي ترسّخ، مع الزمن، على أنه لا يميد. هكذا يبدو كورونا أنه تذكير بأننا استكَنّا إلى حضارةٍ ظنَنّا أن معارفها راسخة، وشيّدنا عالماً بالاستناد إلى علوم اعتقدنا أنها يقينية. بهذا المعنى، كورونا جرثومةٌ، لأنها تعيدنا إلى الأصل؛ إلى التساؤل: من نحن؟ ولأنها تحثّنا على استعادة أسئلة سقراط بخصوص معارفنا، وعلى الوعي بأنها نسبية، رجراجة لا تفضي إلى يقين.
*****
ثمّة كلام كثير ينْتَحُ من لغة لا تعني ما تقوله؛ لغة لا تقول شيئاً. فبين "حرب" أعلنها الرئيس
السياسيون في حيرة من أمرهم وأمر هذا الفيروس. ماذا يفعلون؟ يقولون إنّهم يستندون، في قراراتهم، إلى هيئةٍ علميةٍ عليا في البلاد، أي إلى فريق من أبرز العلماء يقدّم لهم المشورة والنصح. ولكن هؤلاء العلماء يقولون من غير توقف إنهم لا يعرفون كورونا. هؤلاء معارفُهم لا تنطُق. هكذا وجد الرئيس ماكرون، بعد أقل من شهر من إعلانه "الحرب" على كورونا، أن عليه أن يعترف، بما يشبه التوبة، أن "الحرب" هذه متعذّرةٌ، لأن قراره بخصوصها استند إلى معارف هي، في الوقت نفسه، كما قال في كلمته في 13 إبريل/ نيسان، "جزئية" و"متغيرة"، أي سريعة التقلب؛ وأن الأمر يتطلب انعطافةً لا تمَس كورونا فقط، بل كلّ الاستراتيجية المتبعة حتى لحظة إعلان "الحرب".
كورونا جرثومة تُسْكِتُ الكلامَ وتمسحُ اللغات. يقول لنا إن لغتنا لا تقولُ شيئاً. هو لذلك عدو مهينٌ، كما كتب حازم صاغية. مهينٌ لأنه لا يترك لك حتى فرصةَ مواجهته، ولا التعرّف عليه، ولا حتى تعريفه. يستعصي كورونا على التعيين. كورونا لا حدّ له. ولا أحد يقدر على وصفه. تكمن إهانته في أنه ضئيل إلى درجة أنه لا يُرى، ولكنه مربك للكبار من حيث قابليته على المراوغة، فالرئيس الأميركي الذي أثبت المسحُ المخبريُّ سلامةَ بدَنِهِ من الفيروس، تبيّن، بعد أقل من أسبوعين، أن رئاستَه كلّها تترنح جرّاء هذا الكائن الذي لا يُرى.
انتهت حرب ماكرون بأن يحظرَ المجتمعَ عن الاجتماع. كلٌ في مِحْجرِه لا يَمِسّ ولا يُمَسّ. ما عليك سوى الانحباس والابتعاد عن المجتمع . على الحيوان الاجتماعي الأرسطي الذي فيك أن
من حيث هو مجهول، أي غُفْلٌ، يحثُّ الفيروسُ كورونا الناسَ على التواضع، على ترجيح اللاأدرية، على اللايقين، وربّما على الصمتِ والتأمل. كورونا هو رسالةٌ كثيفةٌ بفصاحتها في أن علينا أن نعتادَ على العيش ضمن اللايقين، أن المجهولَ الغامضَ جزءٌ من المعرفة، وأن الغامضَ يُوضّحُ الذي يبدو أنه واضح، ويُسائله. والحقيقة أن كورونا سرعان ما تحّول إلى مادة خصبة للتأمل وإلى معين لا ينضب للثرثرة، أي للكلام الذي لا يقول شيئاً. صحيح أن كورونا فيروس، ولكنه غدا، بسرعة فلكية، ظاهرةً اجتماعية، أي سياسية، وبالضرورة موضوع نزاعاتٍ وسجالاتٍ لا حصر لها، ليس الصراعُ الانتخابي غير إحداها. وهو بالتأكيد تحدٍ يواجه الفيلسوفين العجوزين، يورغن هابرماس وإدغار موران، ومن هم على شاكلتهما.
ولكن أكبر إنجازات كورونا أنه فتح الأعينَ على أن الدولة المدعوّة ليبراليةً متوحشةٌ بالفعل؛ وأنه فرض على حكومات متغطرسةٍ أن تعترف بأهمية دور الدولة في صون المجتمع وفي حمايته من التفكك. هكذا ذكّرنا الفيروسُ كورونا إياه بالعجوزين عبد الرحمن بن خلدون ونيكولا ماكيافيلي، بخصوص أن المهمة المركزية للدولة هي الحفاظ على المصالح العامة، وليست حماية الأسواق، لأن الدولة هي، بحسب لغة ابن خلدون، سُوق العالم.
******
في كورونا جانبان نقديان، يُكتفي هنا بالإشارة إليهما: أولهما، كشفه عمّا يتعذّرُ دحضُه عن ابتلاء
إننا ندفع اليوم ثمن تلك السياسات التي بدأت في ثمانينيات القرن الماضي، ويمكن تلخيصها في أنّها وضعت الإنسان في خدمة الاقتصاد. وأختصر موقفي بالقول بضرورة إعادة "اختراع" الدولة الاجتماعية، وبناء شرعيتها على أسس الحقوق الإنسانية.