ولفت هرئيل إلى أن الخلافات بين الرؤى الإسرائيلية والأميركية لا تتلخص فقط في عدم الاتفاق بشأن الموقف من إيران النووية، أو تعاظم قوة "حزب الله"، بل في سعي روسي دؤوب لإضعاف الولايات المتحدة. وقال هرئيل نقلاً عن مصدر أمني إسرائيلي لم يكشف هويته: "الروس يملكون هنا جمهوراً يشكّل هدفاً متوفراً مع قدرة على التأثير، السؤال هو ما هي مصلحتهم، فروسيا هي اللاعب الأذكى في حملات التأثير، لكننا لم نرصد إلى اليوم محاولات لها لشنّ حملات كهذه داخل إسرائيل".
وبحسب المحلل الإسرائيلي، فعلى ضوء هذه الحالة يستحسن بأعضاء لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست، الإصغاء جيداً لتصريحات رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، غادي أيزنكوط، الذي حذر في يوليو/ تموز الماضي، من "إمكانية تدخّل أجنبي في عمليات ديمقراطية في إسرائيل"، من دون أن يأتي أيزنكوط على ذكر اسم روسيا صراحة. ولفت هرئيل إلى أنه عندما قام أعضاء اللجنة المذكورة قبل أشهر بزيارة رسمية إلى روسيا للقاء نظرائهم في البرلمان الروسي، نصحهم خبراء في مجال حماية المعلومات بعدم اصطحاب هواتفهم النقالة، قائلين لهم "قد تعودون من هناك مع صاحب يلازمكم مدى الحياة".
عين على الصين
في موازاة ذلك، كشف هرئيل أن إحدى اللجان الفرعية للجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست الإسرائيلي، تستعد في الفترة القريبة المقبلة لمناقشة تداعيات التأثير الإقليمي للصين في المنطقة، خصوصاً أن الصين تبدي في السنوات الأخيرة اهتماماً متزايداً بأحوال المنطقة وتعتمد سياسة استثمار مالية كبيرة (من ضمنها شراء شركات صينية كبرى لشركات إسرائيلية، أشهرها شركة الألبان الإسرائيلية تنوفا).
وإذ لفت هرئيل إلى الاختلال في مظاهر الاهتمام الصيني بالمنطقة عن مظاهر وأدوات السياسة الروسية، لا سيما اعتماد الصين على الأداة الاقتصادية، فإنه أشار إلى ما نشرته وكالة "بلومبيرغ" الإخبارية أخيراً عن أن مجمل الاستثمار المالي لشركات صينية من القطاع الخاص وأخرى حكومية قد بلغ في العقد الأخير نحو 318 مليار دولار، استُثمرت لشراء عقارات في أوروبا وشركات بنى تحتية مهمة وشركات تقنيات عالية ونوادي كرة قدم.
وكانت الصين قد قامت بخطوات مشابهة في إسرائيل ولكن بدرجة أقل، ويبدو أن شركات صينية من القطاع الخاص، وربما تكون مدعومة من الحكومة الصينية، تشارك في مناقصات لشراء شركات ومصالح اقتصادية وعقارات مختلفة، وهي استثمارات من شأنها أن تشكّل مستقبلاً أدوات لممارسة ضغوط اقتصادية لضمان إبرام صفقات مستقبلية بشروط مريحة للصين.
وأشار هرئيل إلى أن حكومة الاحتلال، وعلى رأسها بنيامين نتنياهو، تتجاوب بشكل إيجابي للغاية بل وبحماسة مع السياسة الاقتصادية والاستثمارية الصينية، إذ يُكثر نتنياهو من الحديث عن المخزون الاقتصادي الهائل للصين والفائدة المرجوة من السوق الصيني. وكانت حكومة الاحتلال أقرت في العام 2013 قراراً بتشجيع العلاقات الاقتصادية مع الصين وفوّضت المجلس القومي لشؤون الاقتصاد بتركيز النشاطات والخطوات اللازمة لذلك، والتي بدأت ثمارها تظهر جلياً على الأرض.
وأبرز هرئيل، في هذا السياق، عمل شركات صينية في بناء شبكة الترام الخفيفة في مدينة تل أبيب، وشق أطول طريق في إسرائيل يُعرف باسم "عابر إسرائيل"، أو "شارع 6" الذي يمتد من جنوب إسرائيل ويفترض أن ينتهي عند رأس الناقورة شمالاً، وحفر طريق النفق أسفل جبل الكرمل في حيفا، ومنح شركات صينية مسؤولية صيانة ميناء حيفا لغاية العام 2020.
الاستعداد لما هو آتٍ
في المقابل، أشار الكاتب إلى محاولات "معدودة" لحكومة الاحتلال لتقييد نشاط الشركات الصينية، علماً أن الرئيس السابق لـ"الموساد" الإسرائيلي، رافي إيتان، سبق له قبل أعوام أن حذر في الكنيست من خطورة النشاط الصيني، خصوصاً عند إبرام صفقة بيع شركة الألبان "تنوفا" للصين، باعتبار ذلك خطراً على الأمن الغذائي الإسرائيلي. وألقى هرئيل الضوء على معارضة جهات حكومية لتمدّد نشاط شركات التأمين الصينية في سوق التأمين داخل إسرائيل، ومحاولات شراء شركات تأمين إسرائيلية مهمة مثل "فينيكس" و"كللا"، كما أن تدخّل الجهات الأمنية الإسرائيلية أحبط محاولات شراء شركات صينية جزءاً من شركة الاتصالات الهاتفية الخليوية "بيليفون"، كذلك منعت الجهات الأمنية إشراك شركات بناء صينية في أعمال توسيع مطار بن غوريون.
ولعل أهم ما يؤشر للمخاوف من احتمال ممارسة الصين ضغوطاً على إسرائيل، هو ما قامت به بكين قبيل زيارة نتنياهو العام الماضي إليها، إذ ضغطت على الحكومة الإسرائيلية لمنع مصدر أمني إسرائيلي رفيع المستوى من الإدلاء بإفادته بشأن قيام منظمات "إرهابية"، بحسب التقرير، باستخدام أحد المصارف الصينية لتحويل أموال لتمويل عمليات إرهابية، وقد تراجعت حكومة الاحتلال ومنعت تقديم الإفادة للمحكمة.
ورأى هرئيل أن هذه المعطيات كلها توجب على حكومة الاحتلال التعامل بحذر أكبر مع النشاط الصيني، لافتاً مثلاً إلى أن شبكة الترام التي تعمل شركة صينية على بنائها في تل أبيب، تمر بالقرب من مقر قيادة أركان الجيش ووزارة الأمن الإسرائيلية في تل أبيب، داعياً لبحث تداعيات ومخاطر تسليم مهام مراقبة عمل شبكة الترام وكاميرات المراقبة فيها لشركة أجنبية.
وأشار إلى أن الدول الغربية تبدي يقظة أكبر من إسرائيل لهذه الجوانب، وقامت بسنّ قوانين خاصة لحماية أمنها القومي. فقد أقرت النمسا مثلاً قوانين تلزم باستصدار أذون خاصة للاستثمارات الأجنبية التي تفوق مبلغ 150 مليون دولار. كما اتسع نطاق التشريع الوقائي في هذا المجال في الولايات المتحدة الأميركية ليطاول الصين، واشترط استصدار أذون وتصاريح أمنية بما في ذلك عبر مكتب التحقيقات الفيدرالي "إف بي أي".
وأقر هرئيل بأن السلطات الصينية ليست معادية لإسرائيل، وأن الانطباع العام هو أن الصينيين يقدّرون "الإبداع وروح المبادرة الإسرائيلية"، لكن "إذا أخذنا بالحسبان موازين القوى بين الطرفين، فيبدو لنا أن الصين غير مبالية بالاعتبارات الاستراتيجية التي تشغل بال إسرائيل"، بحسب قوله. ورأى أن على إسرائيل الاستعداد لما هو آتٍ ليس من باب "الصين فوبيا"، وإنما من باب وجوب تحليل سبل الاستعداد لمواجهة التحديات التي يفرضها النشاط الصيني في إسرائيل وفي المنطقة، تماماً مثلما بدأت تستعد لمواجهة التحديات التي تفرضها التحولات الجارية في مكانة روسيا ودورها.
وفي هذا السياق، نقل هرئيل عن الجنرال احتياط أساف أوريون، رئيس برنامج دراسات إسرائيل - الصين في مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، قوله إن الصين وروسيا تفرضان على الأمن القومي الإسرائيلي تحديات من نوع جديد، فالحديث هو عن دولتين لهما نَفَس طويل وقدرات للتخطيط والدراسة المعمّقة وللمدى البعيد، مضيفاً "العلاقة مع هاتين الدولتين تحمل في طياتها فرصة اقتصادية على إسرائيل أن تعرف كيفية استغلالها، وسط إدراك للتباين في المصالح والمخاطر. هذا الأمر يلزم استعداداً مغايراً للدولة، لأن موازين القوى في هذه الحالية ليست في صالحها، بل هي ضدنا، ولأننا لا نملك تجربة في مواجهة تحديات كهذه".