قازان.. أن تكون أكثر المدن الإسلامية شمالاً

19E97BE1-6727-48E3-9221-F5D8EB127CF2
ناصر الرباط

مؤرخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

19 سبتمبر 2019
7E4AAFCF-7D25-47F3-AD68-BE16BB105627
+ الخط -

قازان، عاصمة جمهورية تتارستان ذات الإدارة الذاتية في الاتحاد الروسي، هي أكثر المدن الإسلامية شمالاً، قبل أن تصبح بعض مدن اسكتلندا والنرويج وكندا الواقعة إلى الشمال منها ذوات أقليات إسلامية لا يستهان بها في القرن الواحد والعشرين. فقازان الواقعة على خط العرض 55 والمطلّة على ضفاف نهر الفولغا العظيم تعود على الأقل إلى النصف الأول من القرن الحادي عشر، حيث يغلب أن الذين أسسوها هم بلغار الفولغا المسلمون الذين لا نعرف عنهم الكثير. تعرضت المدينة للتدمير إثر الاجتياح المغولي الذي قضى على مملكة البلغار وغيرها من ممالك الفولغا في بداية القرن الثالث عشر، قبل أن يتحول مغول القبيلة الذهبية، المعروفون في المصادر العربية بمغول بركة خان، إلى الإسلام في منتصف القرن الثالث عشر ويعيدوا إحياء المدن التي دمرها أجدادهم.

كان بركة خان، الذي حكم بين 1257 و1266، أول من أسلم من أحفاد جنكيز خان. وهو قد وسع مملكته لتضم أجزاء كبيرة من جنوب روسيا وأوكرانيا بالإضافة إلى غالب القوقاز، وتحالف مع السلطان المملوكي الظاهر بيبرس ضد ابن عمه هولاكو ومملكته الإلخانية في إيران. مملكة القبيلة الذهبية هذه استمرت بأشكال مختلفة حتى 1552 عندما قضى قيصر روسيا إيفان الرهيب عليها في ما يعرف في التاريخ الروسي بالخلاص من "النير المغولي". ثم ضمت روسيا القيصرية ما تبقى مستقلاً من أراضي خانات المغول على الفولغا وفي القفقاس والقرم على مدى القرنين السابع عشر والثامن عشر حتى أتت يكاترينا الثانية لكي تبتلع آخر الخانات من بقايا القبيلة الذهبية، خانات القرم، عام 1783 منهية بذلك الوجود المغولي فيما سيصبح أراضي روسية، وإن كانت اليوم تتمتع بحكم ذاتي.

قازان اليوم تعكس هذا التاريخ المعقّد في روحها وتنوّع سكانها، خاصة بعد استقرار أعداد لا بأس بها من الترك القفجاق بها خلال الانهيار المغولي المديد وبعد أن نقل ستالين إليها غصباً أعداداً مهمة من تتر القرم بعد الحرب العالمية الثانية، بالإضافة إلى الاستيطان الروسي المستمر منذ القرن السادس عشر حتى صار الروس الأرثوذكس يشكلون اليوم أكثر من 40 في المائة من السكان البالغ تعدادهم أكثر بقليل من أربعة ملايين نسمة. أما عمارة المدينة وتخطيطها وهيأتها الجامدة والباردة ونظافتها ونظامها فهي نتاج دخل الثروات الطبيعية التي تتمتع الجمهورية بها وتأثير التقليد الروسي/السوفييتي الطويل في التخطيط العمراني المهيمن.

قازان أيضاً مدينة تفاجئك باستجابتها للتغيرات التي حصلت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، كما غيرها من مدن روسيا الاتحادية، التي فتحت نفسها وفضاءها للنيوليبرالية. ففيها من آثار السوق المفتوحة الكثير بدءاً من منتجات الاستهلاك المبثوثة في كل مكان إلى مبانيه وإعلاناته ويافطاته، التي تحاول بمعظمها التجلبب بصورة شرقية متخيلة تَدين لعمارة ديزني لاند الخيالية الفاقعة أكثر بكثير مما تدين لتراث المدينة الإسلامي المغولي الذي أزيل بمعظمه خلال حقب متفاوتة.

يظهر هذا الخليط السوفييتي والشرقي والاستهلاكي مكثفاً في المركز الإداري للمدينة المسمى، بدون أدنى سخرية، الكرملين، وهو موقع القلعة الأصلية حيث أقام الروس موطئ قدمهم بعد احتلالهم للمدينة في القرن السادس عشر. الجامع الرئيسي في المدينة، المدعو بقول شريف، هو المعلم الأساسي فيها وجاذب السياح الأول (الكثير منهم من مسلمي روسيا الذين يأتون إليه كمحج).

وهو يتصدر "الكرملين" مع كاتدرائية أرثوذكسية روسية كدليل على التآخي بين ديانات الشعبين المكونين لتتارستان كما تؤكد كل الخطب والمنشورات الرسمية والسياحية مراراً وتكراراً. هذا الجامع حديث جداً، تم بناؤه عام 2005، وهو قد حل محل جوامع أقدم منه أزيلت عندما كان الروس ما زالوا يحاولون إجبار التتار على اعتناق المسيحية في القرنين السابع عشر والثامن عشر. وقد صمّمه أربعة معماريين محليين يبدو أنهم هم أيضاً قد تأثروا بعمارة قصور مدن والت ديزني المبثوثة في أرجاء المعمورة أكثر من تأثرهم بطرز إسلامية محددة وإن كان الشكل العام للجامع يوحي بالجوامع العثمانية بمآذنه الأربع وقبّته المركزية.

وقد أضيف في الطابق تحت الأرضي منه متحف للحضارة الإسلامية التترية يحوي شذرات متفرقة من تراث المنطقة الإسلامي، بعضها قادم من حفائر أركيولوجية، وبعضها من أرشيفات الحكومات المحلية. ولكنها جميعها لا تعطي إلا صورة باهتة لثقافة الإسلام في المنطقة، هذه الثقافة التي قاومت قروناً من المحو والاضطهاد واستوعبتها لكي تعود اليوم لتحاول اللعب على تناقضات تاريخها وحاضرها والوقوف على قدميها كمدينة ذات تراث إسلامي في محيط روسي واسع وجارف.

أهم لاعب في هذه الاستعادة هو قطعاً الرئيس الأول للبلاد، منتيمير شيمايف، الذي كان سكريتيراً عاماً للحزب الشيوعي التتري قبل انهيار الاتحاد السوفييتي. وهو قد أعاد صناعة نفسه كرئيس وطني ضمن المحيط الروسي البازغ بعد عام 1991 ليحكم البلاد بمزيج من الدهاء والأبوة واللعب على الحبال المختلفة لثمانية عشر عاماً ثم يمرر كرسي الرئاسة لخليفته رستم مينياكوف الذي دربه على مدى سنين وليحافظ هو نفسه على لقب "الرئيس الأول".

شيمايف هذا هو ناحت صورة قازان المعاصرة، وبشكل عام تتارستان نفسها، كدولة شبه مستقلة ضمن اتحاد روسي مهيمن، تتعاطى مع تراثيها المتناقضين تاريخياً تعاطياً متوازياً ومتعادلاً. وهو في هذا خالف الكثير غيره من السياسيين الشيوعيين السابقين الذين استلموا دفة الحكم في بلادهم الإسلامية الآسيوية، مثل كازاخستان وأوزبكستان، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وقادوا دفتها نحو الاستقلال عن موسكو وإن لم يتمكن أي منهم من الانعتاق من مجال تأثيرها الطاغي.

ولكن شيمايف لم يتمتع بنفس درجة البعد عن المركز والاستقلالية في التاريخ التي تمتع بها حكام هذه الجمهوريات الإسلامية الأخرى لكي يعلن استقلاله عن موسكو، إذ إن تتارستان بالإضافة إلى وقوعها في قلب روسيا وفي جزئها الأوروبي، ملتصقة تاريخياً بتاريخ روسيا الحديث والمعاصر أكثر بكثير من هذه الجمهوريات الإسلامية.

وهي أيضاً غنية بمصادر الثروة فيها من نفط وغاز ومن الصناعات التي ورثتها عن الاتحاد السوفييتي مثل الصناعات الحربية وصناعة وسائل النقل. وهي بالتالي أكثر ثراءً من محيطها وتدفع لذلك ضريبة غالية على شكل 60 في المائة من دخلها السنوي للحكومة المركزية في موسكو وتستعيد بعضاً منه على شكل خدمات اتحادية محافظة منها للود مع أمها الباطشة. هذه السياسة المحنكة هي ما حفظ لتتارستان تقدمها ورخاءها وحماها من غضب الأم الروسية، وهي أيضاً ما يساعد شيمايف وخليفته على تلمس طريق حذر في استعادة هوية البلد الإسلامية بدون المساس بالتاريخ الروسي الحديث أو نقده بشدة، بل بمحاولة احتوائه ومهادنته والاستفادة من المنافذ الذي يقدمها شكل الحكم اليوم في روسيا للقوميات المنضوية ضمن أراضي اتحادها. وهم في ذلك إلى حد كبير ناجحون.


* مؤرخ معماري سوري وأستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا

دلالات

ذات صلة

الصورة
الترفيه في غزة

منوعات

تسعى فتيات فلسطينيات للتغلب على الواقع الصعب الذي يعانين منه في قطاع غزة المحاصر عبر تسيير الرحلات الترفيهية، والتي يتم من خلالها زيارة الأماكن الترفيهية والسياحية والتاريخية، بهدف الترفيه عن النفس وكسر حالة الجمود.
الصورة

اقتصاد

قد يكون السفر مع المراهقين أمراً صعباً. فهو يشكل نوعاً من التحدي بالنسبة إلى الأهل، لأن مراعاة أذواقهم ليست بالأمر اليسير، حيث الكثير من الخيارات السياحية التي كانت تروق لهم في صغرهم باتت اليوم مملة وغير ممتعة بالنسبة إليهم.
الصورة

اقتصاد

مع ذوبان القمم الجليدية واندلاع حرائق الغابات، يحدث الاحتباس الحراري بوتيرة أسرع من التوقعات. في البلدان المتأثرة بتغير المناخ، تتعرض العديد من وجهات السفر والسياحة الرئيسية لخطر عواقب وخيمة، منها ارتفاع مستوى سطح البحر، فماذا في التفاصيل؟
الصورة

اقتصاد

تعتبر باكو، عاصمة أذربيجان، كنزاً دفيناً من التاريخ القوقازي المستقطب للسائحين، لاحتوائها على أبنية حجرية تعود إلى عقود ماضية، ولما في شوارعها وأحيائها من أسرار كثيرة لم تُكتشف بعد.
المساهمون