لربما لا يَبلغُ الأدب بالنسبة للناس الأصحّاء الذين يعيشون طبيعتهم ضمن محيطٍ يألفونهُ، الحظوةَ التي يبلغها عند الناس المُبعَدين أو المعطوبين تجاه الآخر. فالأدب يستطيع في لحظات الوحدة، التي لا سبيل واقعيّا لكسرها، أن يُقدّمَ العزاء ويُعيدَ للإنسان المعزول بَعضَ ذاكرتهِ الحسيّة التي اختبرها سابقاً.
في الرواية ذائعة الصيت "الجميلات النائمات" التي تمنّى غابرييل غارسيا ماركيز لو أنّه كاتبها، يتّضح لنا دورٌ فارقٌ للأدب على نحو لربما يبرر شهرة العمل وإلهامهُ. إذ يتيح الأدب في نص الياباني ياسوناري كاواباتا (1899 - 1972) لِمَن فقدوا قدرتهم الحسيّة أن يعيدوا نسجها وتنميتها بشكل مختلف، بالاستناد إلى المخيّلة. عبر مقاربة فقدانِ القدرة على تغيير واقع الشيخوخة وعجزها، فإنّ العجائز يعيدون تخيّل شبابهم من خلال النوم بجوار فتيات لا سبيل إلى إيقاظهن، بالتالي لا سبيل أمام النائمات لتذكير الكهول بعجزهم.
نعرف أنّ عمل اللذة، في جزء منهُ، هو عملٌ تخيّلي لا حسّي فقط. فالعاشق لا يرتوي، وما إن يبلغ أقصى الممكن حتى يشكّ في حبّه ويفكر بالمستحيل. وكذلك القاتل، ما إن يبلغ ذروة القتل تتحطّمُ سَكينتهُ، عِوَضَ أن يبلغها. فأفكارنا عن الأشياء تسبق فعلها. لكن، ما تقدّمه الرواية ليست فكرة مسبقة عن الشيخوخة أو العجز الجنسي. إنّها تدعو الكهول إلى استذكار مغامراتهم السابقة، مع التأكيد على أنّهم "زبائن لا يجلبون المتاعب".
بإمكان الإدب أن يعيد للإنسان المعزول بعض ذاكرته الحسيّة
تنهل الرواية من الماضي الحسّي لشخصياتها، لا من تخيّلاتهم حيال الغد. وهذا ما نجده في تجارب المعتقلين، سكّان السجون الانفراديّة الواقعية، أو تلك النفسيّة التي يَدفع عطب ما بالإنسان إلى الرزوح تحتها. هو ما نجده أيضاً في قصص المهاجرين الجُدد الذين لم يألفوا بعد الأمكنة الجديدة واللغة الجديدة والناس الجُدُد. فنراهم يأنسون إلى ماضيهم، ويجعلون منهُ دَفقاً حسيّاً ينعشُ جفاف حاضرهم ويعيدُ، ولو على نحوٍ تخيّلي، ربطهم حميمياً مع ما انقطع. نجدُ عشّاقاً ومَنفيّين ومُبعَدين. أناسٌ وجدوا أنفسهم معزولين عن الآخر، في موضع العجز الذي أثرتهُ معالجة صاحب نوبل (1968) في رواية "الجميلات النائمات" أيّما إثراء.
ترمّم الرؤية التي يخرج بها الروائي علاقات العاجزين مع ماضيهم، وبهذا فإنّهم ينهلون منهُ سكينةً، لربما لم يعرفوها في الشباب. فالعجائز وهم مسترخون بالقرب من العذارى يعرفون أنّ لا مستقبل معهن، وغياب الأمل يمنحهم الاستسلام العذب. ولربما جاء اختيار الكاتب شخصية العجوز إيغوشي، وهو لم يفقد قدرتهُ بعد، بين مجموعٍ فاقدٍ لقدرتهِ، واحدة من الفضائل التي جعلت النص يخرج، في جانب منهُ، عن حال العاجزين، ليصيرَ، بمعنىً ما، استشرافاً لمن يسكنون حواف الأشياء. يتهادنون مع رغباتهم أو يثملون باتّقادها.
قبل أن يفقدَ إيغوشي قدرته الجنسية، يُتاحُ لهُ عبر الحكاية تكوينَ مفهومٍ جديد عن اللذّة، يُعيدُ تَرتيب تاريخهِ مع النساء - بدافع من تجربتهِ للشيخوخة قبل أوانها- بشكل بدا معه أنّه قادرٌ على الإحساس بالعيش ما إن يفقد القدرة الواقعية لممارستهِ. يستطيع الأدب العبور بهدوء ورِقَّة إلى أكثر الشؤون حميميةً لدى أُناسٍ عاجزين ومعزولين. إنّه، ونحن إزاء نصٍ جمالي متأمّل؛ ينقلُ الشهوة إلى الصفاء ويمدّ العاجز بالسلوى. وإيغوشي، ذلك الزبون الذي تمرّن على ألّا يجلب المتاعب، اختبر علاقاتهِ بهيئة جديدة.
ينظرُ قارئ إلى حال المبعدين عن أحبائهم، إلى حال العاجزين عن الوصال، الساكنين في غُرَفٍ مُفرَدة، غُرباءَ عاجزين عن التواصل مع محيطهم، إمّا لعجزٍ في اللغة، أو لرهاب التمييز، ويُشرقُ في تصوّراتهِ عجائز كاواباتا، حيثُ يأتيهم الموت، وهم يتأمّلونَ جمالاً نائماً في أبهى ما تكون صورة النهاية.
* كاتب من سورية