في آفة التعصّب
حينما أراد الغزالي نقض الفلسفة تفَلسَفَ، ففكَّكَ العقلَ بالعقل، وهو أخطر مآلات "تهافت الفلاسفة"، لكنه شرّع للفلسفة والفلاسفة أبوابًا كانت مغاليق، وما زال التأسيس للمعرفة الفلسفية التراثية قائمًا على كتابه وردّ ابن رشد (تهافت التهافت). والغزالي نفسه هو القائل [إحياء علوم الدين: ص 40، ط 1. المعرفة، بيروت]: "التعصب سبب يرسِّخ العقائد في النفوس، وهو من آفات علماء السوء؛ فإنهم يبالغون في التعصب للحق، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة". أخرج الغزالي التعصب من العلم إطلاقًا، بل جعله نقيضه. ونسبه إلى صنف نعتهم "علماء السوء". فكيف يكون العالم عالم سوء؟ وتكشف عبارات أبي حامد صفات تصم حاملها بذلك النعت، هي:
أولًا: "التعصب سبب يرسِّخ العقائد في النفوس" في اتجاهين: يرسّخ في نفس المتعصب عقيدته، وفي نفس مخالفه عقيدته أيضًا. وهذا يشبه ما نسميه "المتاريس"؛ فالمتعصب يتمترس خلف معتقده، ويجعل مخالفه يتمترس خلف معتقده. تُضحي المعتقدات متاريس، وحواجز، وأسوارًا، تترسّخ عمقًا، وتعلو شاهقة لينقسم المجتمع على نفسه وفق عصبيات أفراده وشرائحه. وكلما ازداد التعصب احتدّ الانقسام حتى يتشظّى المجتمع أندادًا لا أعضادًا، وشراذمَ لا توائمَ، ويشتدّ بأسُ مكوناته بينهم، ويفترقون وهم "كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدِيهِمْ فَرِحُون" [سورة الروم: 32]. أليست هذه بؤرة معاناة البشرية اليوم؟ أين هذا من "لِتَعَارَفُوا" [سورة الحجرات: 13]؟ وهل يتحقق بالتنوع والاختلاف غنى ثقافيٌّ حين يسود التعصب؟
أخرج الغزالي التعصب من العلم إطلاقًا، بل جعله نقيضه. ونسبه إلى صنف نعتهم "علماء السوء". فكيف يكون العالم عالم سوء؟
وثانيًا: المبالغة؛ فعالم السّوء مُبالغ يتجاوز الحقائق المجردة، ويقفز عن ماهياتها لأنه يراها بعدسة محدّبة تضخِّمها كأناه المتضخّمة في الظاهر، أو مقعّرة تصغِّرها كإحساسه العميق بذاته الضئيلة. المُبالغ مُفرِط أو مُفرِّط، مُهوّل أو مُهوّن. وإذا كان التجرّد من "التذويت"، ومعاينة الأشياء بواقعيتها، بلا زيادة أو نقصان، في أوّليّات العلم، فإن المُبالغ فقير جدًا فيهما؛ لأنه لا يرى شيئًا إلا من خلال عدسة ذاته القابلة للتعديل بين تقعير وتحديب، فيذيب كل شيء ويمنحه صورة ذاته، ولهذا يشخصن كلَّ شيء.
والمبالغة طريق الغلو، فالإغراقِ، فالانغلاقِ الذي لا يتراءى فيه أمام صاحبه سوى صورته؛ فلا يألف إلا نفسه، ولا يرى إلا رأيه. ويغدو هو ورأيه كتلة واحدة؛ فإذا ناقشه أحد جُنّ جنونه لتوهمه أن مخالفته نقض لوجوده. والمنغلق أناني يرفع أسوارًا حوله، وتعلو أناه كلَّ من سواه، وما سواه، وتتضخم حتى يصبح عصابيًّا، تستفزه الكلمة، ويستثيره الرأي المخالف، بل حتى المختلف. وهذه بابة الإقصاء والعصبية والحنق والحقد والهجوم؛ فكلّها وسائل دفاعية عن "أناه"، وكأنّه حاز مقامًا في الفردوس يدرأ عنه كل من/ ما يُمَاسُّ حدوده التي ليست بالضرورة "حدود الله".
عالم السّوء مُبالغ يتجاوز الحقائق المجرّدة، ويقفز عن ماهياتها لأنه يراها بعدسة محدّبة تضخِّمها كأناه المتضخّمة في الظاهر، أو مقعّرة تصغِّرها كإحساسه العميق بذاته الضئيلة
وثالثًا: التعصّب؛ فعالم السّوء لا حياة له في بيئة حرة من التعصّب الضيّق إلى، أو على... ومعنى البيئة الحرة أنّها تَشرَع الأفق واسعًا للعقل؛ لينطلق ويبحث ويفكر طالبًا الحقيقة، موظِفًا المعارف والعلوم، ولا تُغلق دونه الأبواب. المتعصّب لا يستطيع إلى الحياة سبيلًا في بيئة نقيّة صحيّة كهذه، تصطخب بالأفكار، في جدليّة صحيّة نقديّة واعية وواعدة، تنظر في الأشياء ولا تكتفي بالنظر إليها، وتمسّها دون أن تكتفي بمُماسَّتها، وتغوص فيها غير قانعة بالعوم على سطحها. المتعصّب دائمًا شهوانيّ لسلطة ما تحقّق رفعةً لنفسٍ عاجزة عن تحقيق شهواتها إلا بالتعصّب إلى/ على، متعالية لا تحسّ بوجودها إلا بالتعصب إلى/ على. ويفتقر المتعصّب للموضوعية التي هي أساس العلم وشرطه؛ فالعالم باحث عن الحقيقة، وكذلك كل ساعٍ إليها "الكلمةُ الحكمةُ ضالةُ المؤمن، حيثما وجدها فهو أحقُّ بها" [سنن ابن ماجه، تحقيق عبد الباقي، ط2 الحلبي، ص 1395 (4169)].
ورابعًا: المبالغة في التعصب. المبالغة في ذاتها إفراط، فكيف تكون المبالغة في التعصّب؟ والتعصّب في ذاته تفريط بالموضوعية، فكيف يكون تعصّب المُبالغ؟ يسدّ مسدّ اقتران اللفظين معًا لفظ آخر، ليس أقلّ منهما سوءًا هو "التطرّف" الوثيق الصلة بالعنف –العرب درجت على أن جرح اللسان أشدّ من جرح السنان- والمُبالغ في تعصّبه عادة ما يقيس العالم كله من موطئ قدميه: القرب والبعد، والصحة والسقم، والجودة والرداءة، والحق والباطل، كلها على مقاسه... إنه "يتألّه" بالتدريج كلّما علت أسواره، وتراكم وهمه، وخيّلت له نفسه أنه فاق أبا حنيفة النعمان وتجاوز قولته [إعلام الموقعين، تح: مشهور، ط. دار ابن الجوزي: 2 ص 143]: "علمُنا هذا رأيٌ، وهو أحسنُ ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه منه"، وأسقط المشهور بين علماء الفقه وأصوله: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي مخالفي خطأ يحتمل الصواب".
وخامسًا: المبالغة في التعصّب للحق، وهي عبارة أخرى مدهشة تخالف ما تناقلناه جهلًا: "التعصب للحق فضيلة"، فالغزالي يجعله أقرب للنقيصة. المشكلة الحقيقية هنا هي مفهوم "الحق" الذي يرى كلٌّ أنه صاحبه، المتمسّك به، الممتثل لمقتضياته، وكلٌّ يرى مخالفه منحرفًا عنه، متحللًا منه، مجتنبًا لمقتضياته. ولولا مرونة مفهوم "الحق" وسعته ليشمل المختلفين في تاريخ العرب المسلمين لما هدأت السيوف بينهم يومًا، وواقع التاريخ يشهد أنهم تعايشوا بتفهم لكل التباينات والتنوعات والاختلافات. والحقّ قرين الحقيقة التي هي مدار البحث، ومناط الحجة، وموطن تقارع العقول والأفهام التي لا تهدأ، ومجرى الأفكار التي لا ترسو. الحقّ والحقيقة صنوان بما هما غاية سعي الإنسان وإلا كان الضلال كله. كان كلّ أولئك يرى في نفسه صاحب الحقّ والحقيقة، لكن أحدًا منهم لم يدّعِ بأنه مالكهما الأوحد. لقد وجدوا أنفسهم ساعين إليهما؛ هذا يراهما من زاوية، وذاك يكدّ وراءهما من أخرى، فإن اختلفت بهم الدروب، وتشعبت المناهج، سلك كلٌّ طريقًا يلتمس به أثرًا منهما، ويأخذ مما يراه الحق قبسًا يضيء به سراج نفسه، وينير الطريق لغيره. هكذا، تتساوى مبالغة عالم السّوء في التعصّب للحقّ مع المبالغة في التعصّب لنقيضه "الباطل"، بما يشبه: المبالغة في التعصّب للحق تساوي المُبالغة في التعصّب للباطل. وقراءتها تكشف أن التعصب يساوي بين الحق والباطل. إنه محض "أعمى" حتى حين يدعي أنه يريد الحق، ويتمسك بالحق، ويدافع عنه؛ لأنه لا يرى سوى ذاته، وما دام يرى نفسه "مطلقًا"، فلا وجود إذًا لغيره. وهذا أشدّ صور التطرف والتمييز، وأخطرها على المجتمع، فضلًا عن خطورته على المتعصّب نفسه.
يضع الغزالي المبالغة في التعصّب للحق في وضع أقرب للنقيصة. والمشكلة الحقيقية هنا مفهوم "الحق" الذي يرى كلٌّ أنه صاحبه، المتمسّك به، الممتثل لمقتضياته
وليس آخرًا: النظر إلى المخالفين بعين الازدراء والاحتقار؛ فعالم السوء غمّازٌ لمّازٌ همّازٌ مشّاءٌ بنَمِيمٍ، يستخفّ بكلّ ما يراه مخالفوه، ويسخّف كلّ ما يحملونه من معتقدات، أو يصلون إليه من أنظار وآراء واستنتاجات، أو يترسمونه من مناهج، أو يفترضونه من فرضيات بحثية، وما يبنونه من نظريات، ويستدلون به من حجج، أو يقتبسونه من نصوص. عالم السّوء يرى المخالف كلّه خطأ حتّى في وجوده. وأخطر صفات عالم السّوء "شمولية" أحكامه و"قطعيّتها"، فهو لا يحكم على جزئية هنا، أو مقولة هناك .. ولا يهتمّ للأفكار، ولا يكترث بالسياقات، ولا ينظر في القرائن. إن حكمه شموليّ قطعيّ، ومسبَّق تمامًا. هو يطلق حكمه ثم يتلمس له ما يسند عوجه ويقيم ميله. هكذا، يكون "وثوقيًّا" متعاليًا في كل ما يتعلق بذاته ومنهجيّته وأحكامه وآرائه وحججه وأدلّته وقرائنه واقتباساته، و"تشكيكيًّا" ساخرًا من كل ما يتعلق بمخالفه/ المختلف عنه، ومنهجيّته وأحكامه وآرائه وحججه وأدلته وقرائنه. المشكلة في هذا تناقضه الصريح مع تراثنا الزاخر برفض السخرية والازدراء والاحتقار حتى في أمور أقل شأنًا من الأفكار. ولعلّ هذا التناقض يكشف عن حجم التأثير الخطير للتعصّب والمُبالغة فيه، مهما تكن أسبابه ودواعيه.
هذه صفات عالم السّوء، وهي صفات كلها يناقض الادعاء حتى بالتعصّب للحقّ؛ منطلقًا ومآلًا. ويمكن، قبالتها، استدعاء صفات عالم الحسن بمفهوم المخالفة، ولعل أجملها ما أثر عن الإمام مالك بقوله [عقد الجيد في أحكام الاجتهاد والتقليد، تح: محب الدين الخطيب، ط. السلفية: ص 32]: "ما من أحدٍ إلا ومأخوذٌ من كلامه، ومردودٌ عليه إلا رسولَ الله"، وقولة الشافعي محمد بن إدريس لإبراهيم المزني [المصدر السابق]: "يا إبراهيم، لا تقلّدني في كلّ ما أقول، وانظر في ذلك لنفسك".
عالم الحسن لا يبالغ، ولا يتعصّب، ولا يبالغ في التعصّب لما يراه الحقّ. وهو لا يزدري أحدًا، ولا يحتقر أحدًا، لا يستصغر شأن فكرة، ولا يستهين بنتاج عقل امرئٍ حتى وإن خالفه، إنما يقارع الحجّة بالحجّة، والدليل بالدليل، ويناقش غير متعالٍ ولا مترفع، ولا ينظر إلى مخالفه نظرة دونية. عالم الحسن لا يتمترس خلف معتقده، ولا يبني أسوارًا بينه وبين المخالف/ المختلف، ولا يهيج حين لا يكسب بالتعصّب إلا العماء، ولا يهيّج العصبيّات حين يفشل وتضعف ريحه راغبًا في استثارة النفوس. عالم الحسن باحث كغيره عن الحق والحقيقة، فإذا ما اعتقد شيئًا فله ذلك دون ادّعاء امتلاك الحق والحقيقة. عالم الحسن سبب لالتئام ما يتشظّى حوله، لا سببٌ في التشظّي. عالم الحسن دأبه البحث والتقصي والتثبت، والحوار الهادئ المنفتح على المخالف/ المختلف قبل الموافق والمساير. بل لعل أظهر صفات عالم الحسن: انفتاحُ أفقه العقلي، وتمسكُه بالعقلية النقدية الواعية، فهما السبيل الأمثل للمعرفة، والمحرك الأصيل نحو النهوض.