عن النقاش اللغوي في المغرب

10 ابريل 2019
+ الخط -
يعيش المغرب، منذ أسابيع على إيقاع نقاش لغوي قديم جديد، جوهره مكان اللغة العربية في منظومة التعليم المغربية. وفي ظاهره، يبدو النقاش لغويا محضا بين من يدافعون على أن تبقى اللغة العربية، وهي بالمناسبة اللغة الرسمية الأولى في البلاد، لغة التعليم الأساسية في المدارس العمومية المغربية، ومن يدعون إلى اعتماد اللغة الفرنسية، إلى جانب العربية، لتلقين بعض المواد العلمية، على اعتبار أن لغة موليير هي الأكثر انفتاحا وملاءمة ومرونة لتلقين العلوم.
وقد أدى هذا النقاش إلى اصطفاف كبير داخل المجتمع المغربي بين منافحين عن اللغة العربية، وهو جمهور متنوع من محافظين وإسلاميين ويساريين، والمدافعين عن الفرنسية، وأغلبهم من دعاة الفرنكفونية الذين يمثلون النخبة الاقتصادية والمالية في المغرب، بالإضافة إلى بعض أصحاب الفكر الليبرالي والعلماني. وبينما تتجسّد قوة المدافعين عن اللغة العربية في وجودهم في الشارع الذي نزلوا إليه، حاملين مطالبهم للتظاهر والضغط، فإن قوة الفريق الثاني تتمثل في أنه يوجد في دوائر صنع القرار الاقتصادي والسياسي، وبذلك نجح في فرض هذا النقاش من فوق.
خلفية هذا النقاش هي إصلاح منظومة التعليم المغربية المتعثرة منذ سنوات، والتي باتت تعرف فوضى لغوية حقيقية، أثّرت سلبا في نجاعتها وفي أدائها، فالتلميذ المغربي يجد نفسه داخل مدرسته العمومية مضطرا إلى تلقي دروسه بالعربية، بما في ذلك المواد العلمية، حتى الحصول على البكالوريا (الثانوية العامة). وفي الجامعة، أو المعاهد العليا، يطلب منه أن يتابع تلقينه في العلوم نفسها، ولكن بالفرنسية. وفي السنوات الأخيرة، سعت جهات من داخل وزارة التربية الوطنية المغربية إلى "تلهيج" بعض المقرّرات الدراسية، بإدخال مفردات من العامية المغربية إلى لغة التلقين والتدريس في المدارس العمومية، عدا عن أن الأمازيغة التي تعتبر لغة وطنية ثانية حسب الدستور المغربي باتت تدرّس في بعض المدارس العمومية، ويدافع المنافحون عنها لتصبح لغة تلقين أساسية، مثل العربية والفرنسية، تلقن بها كل المناهج، بما فيها العلمية الصرفة.
وكان من النتائج السلبية لهذه الفوضى اللغوية السائدة داخل المنظومة التعليمة، أن أثرت سلبا 
على مستوى التعليم في المغرب الذي تراجع كثيرا مقارنةً مع العقدين السابقين، وبدلا من أن يكون التعليم أحد روافد التنمية البشرية، ويشكل مصعدا اجتماعيا لترقّي الطبقات الاجتماعية، تحول إلى آلة ضخمة لإعادة تكريس طبقية اجتماعية بين أبناء الفقراء والطبقات الوسطى المحكوم عليهم بالبقاء في الدرك الأسفل من سلّم المجتمع، وبين أبناء الطبقات الميسورة والنافذة الذين يدرسون غالبا في جامعاتٍ خارج المغرب، وخصوصا في فرنسا، ليعودوا ويتسلموا مقاليد التحكم في الاقتصاد والسياسة وصنع القرارات في المغرب. وظل هذا الوضع كما هو عليه عدة سنوات، حتى بات في مقدور الطبقات الفقيرة والمتوسطة أن ترفع أصواتها، وتطالب بإعادة النظر في مناهج التعليم، ولغة التدريس، وطرق التلقين، فعاد النقاش القديم الجديد حول لغة التدريس إلى الساحة العمومية مجدّدا.
وهذا النقاش منذ طرح في المغرب في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، لم يكن قط لغويا محضا، وإنما كانت تحرّكه خلفيات سياسية وإيديولوجية، فقد ورث المغرب عن الاستعمار الفرنسي أنظمة تعليم مختلفة، تتمثل في ثلاث مدارس متباينة، مدارس تعتمد الفرنسية لغة تلقين أساسية، ومدارس مختلطة تدمج ما بين الفرنسية والعربية، ومدارس الوطنيين المغاربة الأوائل التي كانت تعتمد على العربية لغة تلقين أساسية. وبعد الاستقلال، نفذ المغرب سياسة "المغربة" التي حاولت دمج المدارس الثلاث داخل ما باتت تعرف بالمدرسة العمومية التي احتفظ داخلها بالعربية والفرنسية لغتين أساسيتين للتلقين، وتم تقسيم المواد إلى علمية تلقن بالفرنسية، وإلى مواد العلوم الإنسانية والفكرية وتلقن بالعربية. ولكن مع تنامي الفكر اليساري، في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، وتسرّبه إلى المدرسة العمومية المغربية، سيلجأ الملك الراحل الحسن الثاني إلى فرض سياسة التعريب، وإدخال مواد "التربية الوطنية" و"التربية الإسلامية" و"الفكر الإسلامي" إلى مناهج التعليم، وتلقينها باللغة العربية، من أجل مواجهة الفكر اليساري الذي كانت تمثله الأحزاب المعارضة لحكمه، داخل المدارس. وكانت نتيجة تلك السياسة القضاء على الفكر اليساري، والنقدي عموما، داخل المدرسة العمومية، وفُسح المجال أمام تنامي وانتشار فكر محافظ استفادت منه الحركات الإسلامية، لإيجاد منفذ لها داخل المدارس والجامعات، قبل أن يصل تأثيرها إلى المجتمع، وتتحول إلى لاعب أساسي، أصبح ينافس السلطة الحاكمة في المغرب في شرعياتها الدينية والشعبية والديمقراطية.
لذلك ليس غريبا أن يكون الحزب الإسلامي الذي يقود الحكومة أول المعترضين على الإصلاح 
الجديد لمناهج التعليم، والذي يسعى إلى إعادة فرنسة بعض المناهج. وفي المقابل، لا غرابة من أن تقف على الطرف الآخر جهاتٌ متنفذة داخل الدولة، تسعى إلى فرض "إصلاحاتها" من فوق. وبين الفريقين المتعارضين، توجد الأغلبية الصامتة من أبناء الشعب المغربي الذين تحوّلوا إلى فئران تجارب لغوية، الأجيال الحديثة منهم لا يتقنون لغة واحدة، مُّذَبْذَبِينَ بين لغاتٍ ولهجاتٍ يرطنون مفرداتها مختلطةً بلا قواعد ولا أسس. من المؤسف جدا أنه بعد أكثر من ستين سنة على استقلال المغرب، المغربية والمغربي لا يعرفان ما هي اللغة الرسمية لبلادهما. الدستور يقول إنها العربية والأمازيغية، وفي المدرسة يلقنان بالعربية والفرنسية، وفي الإدارة تفرض عليهما التعامل بالفرنسية، وفي الشارع والبيت يستعملان العامية والأمازيغية، وفي مواقع التواصل الاجتماعي يستعينان بلغاتٍ هجينةٍ، لا مغربية ولا غربية ولا شرقية. لقد آن الأوان لإبعاد الخلافات السياسية والخيارات الإيديولوجية عن المناهج التعليمية، فهي التي نخرت هذه المناهج، وخربت معها مستقبل أجيال كاملة.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).