صيادون في نقطة ماء

23 مارس 2016
شادي الزقزوق/ فلسطين
+ الخط -

أتابع وسائط الإعلام الأجنبية وأستفيد من متابعتي، بغض النظر عما إذا كان ما تبثه يستهويني أم لا. وكلما سمعتُ عن فضائية جديدة غربية استبشرت خيراً. لماذا؟ لأن الإعلامي الأجنبي، شرقياً كان أو غربياً، يصطاد حين يصطاد في بحر أو نهر، الأطلسي أو الفولغا أو المسيسبي أو الراين، على خلاف الإعلامي الأوسطي أو المتوسط الذي يصطاد حين يصطاد في نقطة ماءٍ أو بئر، على رغم كثرة الأنهار والبحار في بلاده.

الأول، يريد التقاط حوت أو سمكة، أما الثاني، فالصيدُ عنده تحوّل إلى هواية يمارسها حتى بين الكثبان الرملية الخالية من المياه والحيتان والأسماك، بل يفضل أماكن صحراوية كهذه حتى لا ينافسه منافس.

هواية عجيبة بالطبع، ولكنها قائمة على قدم وساق، فتجد، على سبيل المثال، ضيوفاً في برنامج يتجادلون، يعنّف بعضهم بعضاً، يشتمه، يشتم أجداده وقبيلته ومذهبه وعقيدته، وكلٌّ يسحب شبكته أو صنارته الخالية متباهياً، فرحاً بالصيد الوفير. وكلُّ من لا يصدق أن السمك يسبح في نقطة ماء، وأن الحيتان تلبط في بئر، وأن القواقع تتشمس فوق الرمال، لا بدّ أنه يفتقر إلى الذكاء ولا يستحق منصب الإنسان العاقل المستنير.

الأعجب أن عدداً كبيراً من الموافقين أو المنافقين، لا فرق، يهللون لبراعة هؤلاء الصيادين، إما خشية أن يتهموا بالغباء، أو خشية أن يقال إنهم لا يُحسنون التعامل مع أدوات التقانة الحديثة، أو إنهم من الغافلين عن العولمة والمأدبة العامرة.

وأسمعهم يخاطبون المشاهد، وينهالون عليه بالعروض:

ــ انظر .. إليك هذا الطبق، "طبق مكسرات".."الرأي".. والحارة الأخرى".

ــ وهذا طبق مشويات "..الحدث.. وما لم يحدث".

ــ لا.. هذا الأفضل.. طبق خضروات.."في الممنوع.. والمرغوب وما بينهما".

ــ لديك كل شيء، فلماذا تتذمر؟

وينظر المشاهد المسكين، أو المذموم والمأكول، أمامه فلا يجد شيئاً، ومع ذلك، ولأنه يرى الجميع يتلذّذون كما يبدو وهم يلقمون أنفسهم باللذائذ، ويحرّكون أيديهم جيئة وذهاباً بين الأطباق والأفواه، يمدّ يده، ويلتقط، وهو مدرك في قرارة نفسه أنه لا يلقم نفسه إلا الهواء، ولا شيء سوى الهواء.

يُقال في القصص إن بطيناً كان يتسلى بدعوة عابري السبيل إلى مأدبة من هذا النوع الوهمي، فيدعو خدمه للمجيء بأطايب الطعام والشراب، فيأتون بأيد خالية وينحنون كأنهم يمدون سماطاً. وينظر الضيف المسكين ولا يجد شيئاً، ومع ذلك يجد البطينَ يقول له بجدية تامة: "مد يدك يا أخي.. لا تخجل، إليك فخذ الدجاجة هذا، وهذه الفالودة.."، ثم يردف ملتفتاً إلى خدمه: "هاتوا الشراب، فضيفنا ظامئ كما يبدو من التهام الموالح".

ويجاري الضيف مضيفه، بين مصدّق ومكذّب، مستسلماً لقدره المشؤوم. فيحرّك يده جيئة وذهاباً بين فمه والأطباق الوهمية.

وذات يوم، وكان هذا ختام المأدبة الوهمية، وقع المضيفُ البطين في شرّ أعماله؛ استضاف عابر سبيل يعرف الفرق بين الهبرة في اليد والهبرة في الخيال، فصبر هذا إلى أن جيء بالشراب الوهمي، فشرب وشرب حتى الثمالة، ثم قام وانهال على البطين بالصفع واللكم. فدهش صاحبنا من هذا الفصل الذي لم يحسب حسابه، وصرخ: "ما هذا؟ لماذا تضربني؟" فرد العارف بالفرق بين الصيد في البحر والصيد في البئر: "أرجو المعذرة.. أسكرتني خمرتك وأفقدتني صوابي".

أعتقد أن أصحاب الفضائيات المتوسطية التي تدعونا إلى موائد مشابهة يستحقون من مشاهديهم المُسكرين مصيراً كهذا.



اقرأ أيضاً:
 أنفاق متخيّلة

المساهمون