لعب اكتشاف احتياطي الهيدروكربونات، شرق البحر الأبيض المتوسط، خلال السنوات الأخيرة، دوراً مهماً في إعادة تشكيل القوى الإقليمية في المنطقة.
وكتب إردال تاناس قره غُل، عضو الهيئة التدريسية في قسم الاقتصاد بكلية العلوم السياسية في جامعة يلدريم بيازيد التركية، والباحث الاقتصادي في مركز "سيتا" للدراسات، أن "هذه الاكتشافات بدأت بالتأثير بشكل غير مباشر على موازين القوى بالمنطقة، إذ ستساهم في فسح المجال أمام دول المنطقة لتصبح دولاً مصدرة للطاقة.
كما أدى بحث الدول الغربية عن أسواق بديلة عن الغاز الروسي، إلى تعقيد موازين القوى في المنطقة أكثر فأكثر، إذ تميل الكفة إلى الدول التي تتبع استراتيجية صحيحة بدرجة أكبر من الدول القوية بالمنطقة.
في هذا الإطار، تزداد أهمية الخطوات التي تتخذها كل من تركيا وإسرائيل ومصر ولبنان وجمهورية قبرص اليونانية وجمهورية شمال قبرص التركية في مجال الطاقة.
ونتيجة أعمال التنقيب عن الغاز الطبيعي المستمرة منذ سنوات طويلة شرقي المتوسط، تم اكتشاف أول مصادر الطاقة في المياه الإسرائيلية عام 1999، ولاحقاً في عام 2010 اكتشفت إسرائيل أيضاً أكبر حقل للغاز الطبيعي ويحمل اسم "لفيتان" في فلسطين المحتلة.
في العام التالي، اكتشفت قبرص اليونانية حقل "أفروديت" في المنطقة التي أعلنتها منطقة اقتصادية خاصة من جانب واحد، أما مصر فقد اكتشفت في 2015 أكبر حقول الغاز في المنطقة ويحمل اسم "ظُهر".
ويعد السبب الرئيس في التوترات الأخيرة شرقي المتوسط، إلى المسار الذي ستتبعه هذه الدول في تصدير الغاز الطبيعي للأسواق الخارجية.
ووفقاً للقوانين الدولية، تمتلك الدول حقوق التصرف في مناطقها الاقتصادية الخاصة، والتي تمتد على مسافة مئتي ميل بحري من سواحلها، إذ يمكن نسب النزاعات بين دول المنطقة إلى تقاطع مناطقها الاقتصادية مع بعضها البعض.
في هذا الإطار، اعترضت السفن الحربية التركية الأسبوع الماضي، سفينة تنقيب إيطالية تابعة لشركة "إيني" للطاقة، بعدما دخلت بتوكيل من قبرص اليونانية إلى المنطقة الاقتصادية التركية الخاصة.
وقبل هذه الحادثة، كانت وزارة الخارجية التركية قد أكدت في 11 فبراير/ شباط الماضي، على حساسيتها الكبيرة تجاه حدودها باعتبارها خطاً أحمر.
وقالت في هذا الصدد، إن إدارة قبرص الجنوبية اليونانية تواصل ممارسة الأنشطة الهيدروكربونية من جانب أحادي شرقي المتوسط، على رغم كل التحذيرات التي وجهناها إليها، متجاهلة بذلك الحقوق الأصلية التي يملكها القبارصة الأتراك الشركاء في ملكية الجزيرة، على الثروات الطبيعية".
وأضافت أن "إدارة قبرص الجنوبية تهدف إلى مباشرة الأعمال في المحضر رقم 3 الواقع في ما يسمى بالمنطقة الاقتصادية الخاصة التابعة لها". وأكدت على أن "أي وضع قد يطرأ نتيجة لذلك، سيكون المسؤول الوحيد عنه هو الجانب الرومي، الذي يصر على مواصلة الأنشطة الهيدروكربونية في الجزيرة من جانب أحادي".
ولفتت الخارجية التركية إلى أن "السبب الرئيس في عدم التوصل إلى حل للمشكلة القبرصية، هو تصرفات الجانب اليوناني اللامبالية، إذ لا يتورع عن تشكيل تهديد على الأمن والاستقرار شرقي المتوسط".
ودعت الخارجية التركية شركات الدول الأخرى، إلى عدم التعاون مع إدارة قبرص الجنوبية في مجال الأنشطة الهيدروكربونية.
وإذا ما دققنا في التطورات الأخيرة، شرقي المتوسط اعتباراً من ديسمبر/ كانون الأول الماضي وحتى الحادثة آنفة الذكر، نرى أن سبب تصعيد التوترات يكمن في تحرك دول المنطقة بما يتوافق مع مصالحها الخاصة، لا سيما إسرائيل ومصر. فضلاً عن أنها ستدخل مصاف الدول المصدرة للطاقة، إلى جانب توقيعها اتفاقات مع شركات الغاز الطبيعي الدولية للتنقيب عن المزيد من مصادر الطاقة.
وفي السياق المصري، يُعتبر افتتاح حقل "ظُهر" للإنتاج في الماضي القريب أولى علامات تغير موازين القوى في المنطقة، إذ تشير هذه العوامل إلى أنها ستلعب دوراً مهماً في المنطقة مستقبلاً.
أما إسرائيل فإنها تصدر الغاز الطبيعي حالياً إلى مصر فقط، كما أنها تسعى من ناحية أخرى لتصدير الغاز إلى أوروبا عبر دول المنطقة.
وتمتلك تل أبيب ثلاثة خيارات في هذا الشأن، أولها عبر تمديد أنابيب إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، والثاني، استخدام منشآت الغاز الطبيعي المسال في مصر لإيصالها إلى السوق الأوروبية، أو إنشاء خط جديد عبر اليونان.
ومن الواضح أن هذه المسارات ستؤثر في موازين القوى بشكل كبير، إذ ستعمل إسرائيل على اختيار المسار الأنسب لها من الناحية التجارية والتقنية والسياسية.
كما يسعى لبنان أيضاً لاكتساب دور فعال شرقي المتوسط من خلال فتحه المجال أمام شركات عالمية مثل "توتال"، و"إيني"، و"نوفوتيك" للتنقيب في مناطقه الاقتصادية الخاصة.
إلا أن بعض المحاضر الواقعة في هذه المناطق تتقاطع مع المناطق التي تدّعي إسرائيل تابعيتها لها، ما يؤدي إلى تصعيد النزاع بين الجانبين بين الحين والآخر.
من جهة ثانية، تعتبر أنشطة الشطر اليوناني من قبرص دافعاً لتدخل السفن الحربية التركية، إذ شكل تكليفها شركة "إيني" الإيطالية للتنقيب عن الغاز في المحضر الثالث، القشة التي قصمت ظهر البعير، لكونها المنطقة ذاتها التي منحت فيها جمهورية شمال قبرص رخصة تنقيب لشركة النفط التركية.
كما يمكن تفسير ردّ تركيا بالسفن الحربية على الانتهاك الأخير على أنّه رسالة في الأصل إلى الدول الأخرى في المنطقة.
وأثبتت تركيا مجدداً خلال الحادثة الأخيرة أنها لن تتهاون على الإطلاق في حماية حدودها. إذ أن أولوياتها في أسواق الطاقة تتمثل في استغلال موقعها الجغرافي الاستراتيجي بالشكل الأنسب، والتحول إلى مركز تجارة للطاقة، والتقليل من اعتمادها على الخارج في مجال الطاقة.
وتواصل تركيا إبراز نفسها كواحد من أهم اللاعبين في المنطقة من خلال مناطقها الاقتصادية الخالصة، وموقعها الجغرافي الهام، كما تعتبر الاستراتيجيات التي تتبعها في مجال الطاقة من أهم العوامل التي ستسفر عن تقوية مواقفها أكثر فأكثر في المستقبل.
في المحصلة، تعيش منطقة حوض شرق البحر المتوسط هذه الأيام توترات وقلقاً غير مسبوق، حيث شهدت الأيام الماضية تصعيداً بين عدد من دول المنطقة، وتهديدات وصلت إلى حد التلويح بالتدخل العسكري كما جرى بين تركيا ومصر وقبرص ولبنان، ومن المتوقع أن تتزايد حدة هذه التهديدات مع زيادة الاهتمام في مصادر الطاقة بشكل رئيس والغاز بشكل خاص.
(العربي الجديد، الأناضول)