صحافة التشهير في المغرب

22 يوليو 2020

(معمّر مكي)

+ الخط -

دقّ صحافيون مغاربة ناقوس الخطر حول تفشّي ظاهرة صحافة التشهير في بلدهم، وقد أصبحت لها مقاولات صحافية كبيرة ترعاها، منها من تحظى بقرب السلطة وعطفها. وفي ثاني بادرة خلال أقل من سنة، وقّع أكثر من مائة صحافية وصحافي بيانا يطالبون فيه بالوقوف أمام تغوّل هذا النوع من الصحافة الذي يسيء إلى مهنة نبيلة، طالما وصفت بأنها سلطة مضادّة، تمثل صوت الشعب ومحامي المصلحة العامة. ليست هذه المرّة الأولى التي يبادر فيها صحافيون مغاربة إلى رفع أصواتهم عاليا للتنديد بما أصبحت تعرفه مهنتهم من انزلاقاتٍ لم يسلم منها حتى الصحافيون أنفسهم، حتى أصبحنا أمام ظاهرة صحافة تأكل أبناءها، ممثلة في صحافة متخصصة في السب والقذف والتشهير الذي لم يعد يستثني معارضين أو شخصيات عامة معروفة بمواقفها المنتقدة أو فقط المستقلة، وإنما يطاول صحافيات وصحافيين تهمتهم الوحيدة أنهم أصحاب آراء ومواقف لا تجاري ما تتبنّاها السلطة في قضايا معينة، ففي سبتمبر/ أيلول الماضي، أطلق أكثر من 150 صحافية وصحافيا عريضة ضد التشهير، على خلفية ما تعرّضت له الصحافية هاجر الريسوني التي أوقفتها السلطات بتهمة الإجهاض، وشهّرت مواقع إلكترونية وصحف مقرّبة من السلطة بها وبأسرتها، ودانتها قبل أن تصدر المحكمة الحكم ضدها، والذي ألغاه عفو ملكي، معزّزا ببيان صادر عن الديوان الملكي يعيد للصحافية اعتبارها.

تكرّر الشيء نفسه أخيرا مع قضية الصحافي عمر الراضي الذي يخضع لتحقيق الشرطة معه، لكنّ مواقع إلكترونية وصحفا نصّبت نفسها في مواقع الإدعاء العام، ووجهت له تهما ثقيلة، ونهشت حياته الخاصة وحياة أسرته الصغيرة. وكل ذنب عمر وهاجر، وقبلهما صحافيات وصحافيون عديدون تعرّضوا للتشهير والتنمّر من "زملاء" لهم في المهنة، أنهم صحافيون مستقلون. 

أصبحت صحافة التشهير والتنمّر ظاهرة تهدد مهنة الصحافة في المغرب

لذلك جاء البيان الذي أصدره الصحافيون المغاربة أخيرا للتحذير من تنامي هذه الظاهرة التي تسيء إلى المهنة وأخلاقها، والمجرّمة بنص القانون، ويحرّمها ميثاق أخلاق المهنة الذي صادق عليه المجلس الوطني للصحافة المكتوبة، وهو هيئة رسمية. وقد سبق للمجلس أن أعلن تلقيه عدة شكاوى، من أشخاص ذاتيين واعتباريين، تتعلق باتهامات خرق أخلاقيات الصحافة، من صحف ووسائل إعلام ومن صحافيين، وتمت إحالتها على لجنة أخلاقيات المهنة والقضايا التأديبية، كما تنص قوانين المجلس التأديبية، ثم لم تصدر أي قرارات عن المجلس بخصوص تلك الشكاوى، على الرغم من مرور أكثر من عشرة أشهر على صدور بيانه الذي اكتفى بوصف تجاوزات صحافة التشهير، من قبيل "نشر تقارير طبية وصور ذات صبغة خصوصية، بالإضافة إلى استعمال مصطلحات وتعابير تتضمن تحاملا، وعناوين مثيرة وفضائحية، تمس بالكرامة"، بأنها مجرّد "خروقات"!

أصبحت صحافة التشهير والتنمّر ظاهرة لا تهدد فقط مهنة الصحافة في المغرب، وإنما تؤثر على كيفية نظر الناس إلى مهنة المتاعب، وخصوصا الأجيال الصاعدة، سيما في ظل تطور وسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح للجميع فرصة استعمالها للتعبير عن آرائهم، وهو ما يفسّر تنامي أعراض سلبية، كالتنمّر الذي تشهده مواقع التواصل الاجتماعي.

ليست حالاتٍ فردية، أو مواقع إلكترونية أو صحف تفتقد المهنية، وإنما "خطّ تحريري" تتبنّاه مقاولات إعلامية كبيرة مقرّبة من السلطة، أو تحظى بدعمها

المفروض في الصحافة أن تمثل قدوة المجتمع، وتهذّب أخلاق الناس وذوقهم، لكنها هي التي أصبحت تنشر هذه الثقافة السلبية التي تستهدف حياة الناس الخاصة، وتخوض في تفاصيل حياتهم الحميمية، وتشوّه صورهم داخل المجتمع. ولا يتعلق الأمر في المغرب بحالاتٍ فردية، أو بمواقع إلكترونية أو صحف تفتقد المهنية، وإنما أصبح "خطّا تحريريا" رسميا، تتبنّاه مقاولات إعلامية كبيرة مقرّبة من السلطة، أو تحظى بدعمها. وغالبا ما يتم ذلك بتواطؤ معها. وفي حالات واضحة، بدعم وحماية منها. وليس الهدف دائما من أجل الوصول إلى جمهور أكبر، كما الأمر بالنسبة للصحافة الصفراء أو الشعبية في دول أوروبية، وإنما أصبح خطّا تتبنّاه هذه الصحافة لمهاجمة معارضين للسلطة أو أشخاص لهم آراء مستقلة، وليست بالضرورة مختلفة عن التي تتبناها السلطة وتدافع عنها.

ظهر هذا النوع من الصحافة في المغرب في العقد الأخير، وازدهر بعد "الربيع العربي"، عندما وجدت السلطة نفسها في مواجهة مظاهرات الشارع، فلجأت إلى خلق صحافتها ورأيها العام داخل وسائط التواصل الاجتماعي، وأوكلت إلى هذا النوع من الصحافة مهمة استهداف معارضيها، والتشهير بحياتهم الخاصة، للنيْل من مصداقيتهم. وسرعان ما تحولت مواقع إلكترونية وصحف بائسة، وضعت نفسها رهن إشارة السلطة لمهاجمة معارضيها، إلى مقاولاتٍ كبيرة تحظى بالدعم من المال العام وبالحماية من السلطة وأجهزتها. ونادرا ما يدين القضاء قضايا التشهير التي يرفعها المتظلمون منها أمامه، خصوصا إذا كانوا معارضين أو فقط مزعجين، في رأي السلطة.

المطلوب تفعيل القانون، وتطبيق أخلاق المهنة ضد من ينتحلون صفة الصحافي للإساءة إليها

انتقل هذا النوع من الصحافة إلى المغرب من التجربة التونسية السيئة الذكر في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي الذي حوّل الحياة الخاصة لمعارضيه إلى مادة إعلامية للتشهير بهم، والنيْل من كرامتهم وشرفهم. وباتت الصحافة المصرية، في عهد الرئيس الانقلابي عبد الفتاح السيسي، نموذجا يُحتذى لدى هذا النوع الرديء من الصحافة الذي يسيء إلى المهنة، فيما مبادئ وأخلاق وتربية أيديولوجية في المغرب حكمت الذين اختاروا مهنة المتاعب في زمن كان فيه الاختيار يؤدّي إلى السجن أو المنفى أو الاغتيال. 

ليس المطلوب اليوم مخاطبة الضمير الأخلاقي لأشخاصٍ بلا ضمير، وإنما تفعيل القانون، وتطبيق أخلاق المهنة ضد من ينتحلون صفة الصحافي للإساءة إليها، وإلى الصحافيين المتمسّكين بمبادئها وأخلاقها. ولذلك جاء بيان الصحافيين المغاربة ضد التشهير، وعنوانه "المانفستو"، ليدقّ ناقوس الخطر قبل فوات الأوان.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).