ويأتي التراجع مدفوعا بتصاعد الخلافات داخل بنية النظام السوري، عززها انشقاق رجل الأعمال رامي مخلوف، ابن خال بشار الأسد، حيث بث رجل الأعمال مقطعاً مصوراً، أمس الأحد، قال فيه إن المسؤولين طلبوا منه التنحي عن رئاسة شركة سيريتل لخدمات الهاتف المحمول، في أحدث منعطف في نزاع على الأصول والضرائب.
وقال مخلوف، إنه سيقاوم الضغط ويرفض التنحي عن رئاسة الشركة، مضيفا أن انهيار سيريتل، سيوجه ضربة "كارثية" للاقتصاد. والشركة واحدة من مصادر الإيرادات الرئيسية للنظام السوري.
ويمتلك مخلوف إمبراطورية أعمال ضخمة تشمل الاتصالات والعقارات والمقاولات وتجارة النفط. وكان يُعتبر في يوم من الأيام وعلى نطاق واسع جزءاً من الدائرة المقربة للأسد وقالت وزارة الخزانة الأميركية إنه واجهة لثروة عائلة الأسد. ويقول مسؤولون غربيون إنه لعب دوراً كبيراً في تمويل الحرب، وهو يخضع لعقوبات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ووفق أسعار الصرف الأخيرة تكون العملة السورية فقدت نحو 97% من قيمتها منذ مطلع العام الجاري 2020، وفق رصد لـ"العربي الجديد"، إذ أنهت الليرة تعاملات 2019 في السوق الموازية عند 915 مقابل الدولار.
وبهذه المستويات، تكون العملة السورية قد خسرت أكثر من 29 ضعفاً من قيمتها أمام النقد الأجنبي، منذ قيام الثورة عام 2011، حيث كان سعر الدولار بمتوسط 50 ليرة.
وقال أستاذ النقد والمصارف في جامعة ماردين التركية، مسلم طالاس، إن تدهور الإحساس بالأمان لدى رجال الأعمال، خصوصا بعد انتشار مشكلات مخلوف، ربما عزز من تهريب الأموال للخارج ما أدى إلى زيادة الطلب على الدولار.
ولا يستبعد طالاس في تصريح لـ"العربي الجديد" أن يكون لقانون قيصر الأميركي الذي يدخل حيز التنفيذ في يونيو/حزيران المقبل في إطار العقوبات ضد النظام السوري، دور في تراجع سعر الليرة، لأنه إن طبق سيطبق الخناق على الاقتصاد السوري، وقد يحول البنك المركزي إلى متهم بغسل الاموال.
وأضاف إنه قد يترتب على هذه الخطوة، تجريم كل المؤسسات المصرفية والمالية السورية المجبرة على التعامل مع البنك المركزي، وعلى ذلك لن يتجرأ أحد على الدخول في أي علاقة مالية أو نقدية مع المؤسسات المالية السورية ما يزيد من عدم الثقة في الليرة والرغبة في التخلص منها ومن ثم زيادة عرضها في السوق وهذا ما يدفع قيمتها للتدهور.
في السياق، رأى المحلل السوري إبراهيم الجبين، أن الليرة السورية لن تعود إلى سابق عهدها، وهي ماضية في الانهيار إلى ما هو أبعد من انهيار الليرة اللبنانية سنوات الحرب الأهلية، لكن الفارق أن الاقتصاد اللبناني وقتها كان اقتصاد سوق مفتوحة رغم كل شوائبه، أما اقتصاد نظام الأسد فما يزال مهيمناً من قبيل "المحتكر الأكبر لكل صغيرة وكبيرة في البلاد".
وأضاف الجبين أن الانهيار المتعاظم في قيمة الليرة سيؤدي إلى المزيد من الانهيارات فيما تبقى من بنية النظام، مشيرا إلى أن رامي مخلوف كان الأول ولن يكون الأخير من بين شبكة رجال الأعمال المتضررين في العمق.
وبجانب الصراع على الأصول داخل النظام السوري، ثمة عوامل أخرى وراء انهيار الليرة، وفق تحليل نشرته وكالة الأناضول، اليوم ، منها جائحة كورونا وعاصفة النفط واستمرار واشنطن في سياسة الضغط القصوى على إيران، الداعم الرئيس لبشار الأسد، ما أربك طهران ودفعها إلى الانكفاء والانشغال بهمومها الداخلية، واضطرها لتحجيم أذرعها الخارجية وخصوصا في سورية والعراق ولبنان.
ضعف إيران الداعم شبه الحصري لنظام بشار الأسد، عمق من جروح الأخير، وزاد من تفاقم أزمته المالية الاقتصادية التي يعاني منها منذ سنوات، وتسبب في انهيار الليرة السورية أمام الدولار.
كما تضررت الليرة من خلو البنك المركزي السوري من النقد الأجنبي والذهب، حيث يعتبر وجود احتياطي العملات الأجنبية والذهب الركائز الأساسية التي تستند إليها العملات الوطنية.
وقد أصبح البنك المركزي فارغاً من احتياطي النقد الأجنبي، بسبب توقف إيرادات ترانزيت النقل البري والبحري والجوي، وتوقف حركة التصدير، المساهم الأكبر في إيرادات العملات الأجنبية، وفق "الأناضول".
كما هناك توقف شبه كامل لعجلة الإنتاج، فأصبح النظام يستورد السلع الضرورية من الخارج، حيث تتم عمليات الشراء بالنقد الأجنبي وخصوصا الدولار، مما أدى إلى زيادة الطلب عليه، ونقصه في السوق، وبالتالي ارتفاع سعره على حساب الليرة المحلية، بينما تسبب النظام في تدمير المصانع وخطوط الإنتاج، وتدمير البنية التحتية التي تعتبر أهم دعائم الاقتصاد.
وفي ظل تداعيات كورونا تراجعت التحويلات المالية من الخارج، والتي كانت تستهدف إغاثة أهالي المغتربين الذين تحولوا إلى نازحين داخل سورية ولاجئين في بلاد الشتات، الأمر الذي يفاقم الفقر بين السوريين.
وفي محاولة لضبط حالة الفلتان التي تشهدها الأسواق السورية، وسط سخط شعبي عارم من ارتفاع الأسعار وعدم تطابقها مع نشرة الأسعار الخاصة بوزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، أصدر رأس النظام بشار الأسد مرسومين رئاسيين، الأول تم بموجبه، إعفاء وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك، عاطف النداف، من منصبه، وتعيين محافظ حمص، طلال البرازي، بديلاً عنه.
أما المرسوم الثاني، فينص على إعفاء المواد الأولية المستوردة، والخاضعة لرسم جمركي 1%، من كافة الرسوم الجمركية والضرائب المفروضة على الاستيراد، لمدة عام واحد، اعتباراً من الأول من يونيو/حزيران المقبل.
وبحسب رئيس غرفة صناعة دمشق وريفها، سامر الدبس، في حديث لصحيفة "الوطن" الموالية، أمس الأحد، فإن المرسوم الصادر من شأنه تخفيض أسعار المنتجات المحلية في الأسواق السورية، على اعتبار أنه يوفر على الصناعي السوري نحو 10% من قيمة فاتورة مستورداته من المواد الأولية، التي كانت تُدفع كرسوم وإضافات غير جمركية.
لكن المعاناة التي يعيشها الاقتصاد السوري، من تدهور الليرة السورية والعقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على النظام، إضافة إلى جائحة كورونا وما تلاها من إجراءات، تجعل من شبه المستحيل ضبط الأسواق ومراقبة الأسعار، وجعلها متناسبة مع دخل الأفراد، وبالتالي فإن إجراءات النظام التي جاءت في الوقت الضائع، لن تشكل سوى ضماد مؤقت لجرح غائر.