حين تستهين أثيوبيا بمصر وتبني سد النهضة
عند الحديث عن المشكلة المتفجرة بين مصر وأثيوبيا، بعد مفاجأة حكومة أديس أبابا القاهرة ببدء تشييد مشروع سد النهضة، والذي يبعد عن الحدود السودانية 20 ميلاً، لا بد وأن نستعرض أسباب بناء أثيوبيا السد، من دون التشاور مع مصر، متجاهلةً دورها ومكانتها، والعلاقات التاريخية بين البلدين، ومتعمدةً أن تهينها في مصدر حياتها ووجودها.
ومصر التي أسماها المؤرخ الإغريقي اليوناني هريدوت هبة النيل، تعتبر، الآن، السد تهديداً مباشراً لأمنها القومي، إذ يتم تشييده على مجرى النيل الأزرق، والذي يشكل نسبة 80-85% من المياه المغذية لنهر النيل. وسيبلغ ارتفاع سد النهضة نحو 145متراً، وطوله 1800متر، وسعته التخزينية 74 مليار متر مكعب من المياه، وسيحتوي على 15 وحدة لإنتاج الكهرباء، قدرة كل منها 350 ميغاوات. وفي تاريخ مصر، بقي كل من الملكة الفرعونية حتشبسوت، ومحمد علي باشا وحفيده الخديوي إسماعيل وجمال عبد الناصر هالات نور مضيئة في ذاكرة المصريين وضميرهم، لأنهم اهتموا بمنابع النيل، وقاموا بتأمينها، بيد أنه عقب وفاة عبد الناصر في 1970، بدأ هجوم عاصف عليه من خلفائه، وبينهم الرئيس أنور السادات، وعناصر الثورة المضادة، ومن يعتقدون أنهم أضيروا من نظام حكمه في مصر والمنطقة والعالم. ولأن عبد الناصر كان يهتم بأثيوبيا، وبأفريقيا عموماً، بدأ السادات يهمل تلك الدائرة الأكثر أهمية لمصر بعد الدائرة العربية، وشعر الأفارقة بأنهم خسروا أباً وسنداً كبيراً لهم في مصر، وكانوا يطلقون على ناصر أسد إفريقيا، وأحيانا بطل إفريقيا.
ويذكر أن عبد الناصر أصر على أن تكون أثيوبيا مقراً لمنظمة الوحدة الأفريقية، وساهم في تأسيسها بقوة مع إمبراطور أثيوبيا، الراحل هيلاسلاسي. وعندما شيدت مصر كاتدرائية العباسية الأرثوذكسية الأم في القاهرة، بمساهمة من الدولة، حرصت القيادة المصرية على دعوة القيادات الدينية الأثيوبية، لحضورمراسم افتتاحها. ولم يكن عبد الناصر يتغيب عن القمة الأفريقية كل عام، ويحرص على حضور كل جلساتها، لأن تلك اللقاءات كانت تحل المشكلات بين دول القارة. وكانت مصر، وقتها، تقف داعمة للدول الأفريقية في كل المجالات، ولا سيّما مجالات الأمن والاقتصاد بقدر ما تستطيع، وهو أمر كان الأفارقة يقدرونه لها.
وكانت مصر عبد الناصر تقف للوجود الصهيوني في أفريقيا بالمرصاد، إلا أنه انتعش في عهد حسني مبارك، واستغلت إسرائيل الفرصة، لتلعب في منابع النيل، كيفما يحلو لها. وحرضت أثيوبيا على إحياء مشروع قديم لتشييد 34 سداً على منابع النيل، لتوليد الكهرباء والزراعة، وكان منها ستة ، أهمها سد النهضة، وتشرف على تشييده شركة إيطالية، وعلى إدارة توزيع الكهرباء الناجمة عنه شركة إسرائيلية.
وفيما رفضت أثيوبيا في المفاوضات مع القاهرة، أخيراً، في الخرطوم، أيّ دور لمصر أو مساهمة بالسد، وحرصت على إبعادها عنه نهائياً، إمعانا في إذلال المفاوض المصري الذي قبل أن يذهب لمعاينة السد، ولايزال يفاوض نظيره الأثيوبي، وهو لا يملك أياً من أدوات القوة.
وكانت أثيوبيا قد استغلت قيام ثورة ٢٥يناير، والخلافات التي تعصف بالمجتمع المصري، وضعف الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، بإعطاء الإذن للشركات الأجنبية أن تبدأ عملها في تشييد سد النهضة وسدين آخرين، قالت إنهما لتوليد الطاقة أيضاً. بينما تفرغت أجهزة الأمن المصرية لمطاردة الثوار السلميين، وقتلهم أو اعتقالهم، وضرب أهالي سيناء. وتفرغ العسكريون للسياسة أيضاً، وللتآمر على ثورة الشعب، تاركين المجال للموساد يعبث في هضبة الحبشة وجنوب السودان وأوغندا وكينيا وبقية منابع النيل، ويحاصر أمن مصر القومي.
ويلاحظ أن الحكومة الأثيوبية لا تترك أي فرصة، يمكن أن يثار فيها موضوع سد النهضة، إلا وتؤكد، بشكل حاسم، أنها لن تنال من حصة مصر قطرة مياه واحدة، وأن السد لأغراض توليد الكهرباء فقط، وبيعها لدول المنطقة. وتلك تصريحات تتناقض مع أصرار أديس أبابا على إعادة تقسيم موارد المياه بين دول حوض النيل، وفق اتفاقية عنتيبي، والتي رفضت مصر توقيعها. ويقول خبراء مصريون إن أثيوبيا شيدت سد إيتايبو على نهر بارانا على الحدود مع كينيا، وقالت للكينيين إنه لتوليد الكهرباء، ثم فاجأتهم بقطع المياه عنهم، ومن الممكن أن تحجز أثيوبيا مياه النيل، وتطالب القاهرة بشرائها.
الحكومة الأثيوبية تتبع سياسة الأمر الواقع مع حكومة الانقلاب في مصر، وتمضي في تشييد سد النهضة، وتحظى بدعم غير مسبوق من شعبها، بينما لا تحظى نظيرتها المصرية بهذا الإجماع، وينقسم المصريون حولها انقساماً حاداً، وإن من المفترض أن يوحدهم ملف المياه. أما الشعب الأثيوبي فينظر للسدود مشروعاً قومياً، يضمن لهم أن لا تتكرر ثانية المجاعات التي عاشوها في الثمانينيات، إلى جانب الدعم الدولي الأميركي الصهيوني الذي تحظى به حكومة أديس أبابا، وهي تحاصر مصر، في مصدر هبتها ووجودها.
ونحن، وإن كنا نتفهم الطموحات الأثيوبية في الاستفادة من عوائد تلك السدود، وتحسين حياة السكان هناك، وضمان أن لا تتكرر المجاعات التي عاشوها في الماضي، فإن الحكومة الأثيوبية مطالبة، أيضاً، بتقديم ضمانات مملوسة للقاهرة، تكفل عدم التلاعب في حصة مصر من المياه، أو النيلُ، منها. وأيضاً، تقديم ضمانات للقاهرة تتعلق بهيكل تلك السدود، خصوصاً سد النهضة وقوة بنيانه، بحيث لا يشكل أي مخاطر مستقبلية على مصر والسودان، حال انهياره، أو تعرضه لخطر الزلازل، لاسيّما وأن هذا السد قد يخل بالتوازن البيئي والأرضي في المنطقة. على أن تنسجم الضمانات مع القانون الدولي، وتكون بإشراف الأمم المتحدة ومجلس الأمن ورعاية المنظمات الدولية المعنية.
وبدون الحصول على تلك الضمانات، يتعيّن على القاهرة أن لا تعترف أبداً بهذا السد، وتعتبره غير قانوني، وتبحث عن بدائل أخرى تجبر حكومة أثيوبيا على أن تعطي مصر تلك الضمانات. ولكن، نجد حكومة الجنرال عبد الفتاح السيسي، غير الشرعية، تذهب للتفاوض مع أثيوبيا، مجردة من كل وسائل القوة وأدواتها، وتتعامل معها الحكومة الأثيوبية على أنها حكومة تمثل قوة عسكرية مسلحة، تغتصب السلطة في القاهرة، وتخضع للتوجهات الأميركية والصهيونية.
ومن هنا، نرى حكومة إثيوبيا تتشدد في مفاوضاتها مع بعثات السيسي، وهي تعلم أن مصر منقسمة وتعصف بها الخلافات، مع تحريض متواصل للحكومة الأثيوبية من الصهاينة المتطلعين للحصول علي حصة من مياه النيل، عبر ترعة السلام في سيناء، حال وصول مفاوضات تسوية المشكلة للحل الذي يتسم بطابع الجدية.
والخلاصة أن حكومة عبد الفتاح السيسي غير مؤهلة للتفاوض مع أثيوبيا، أو لإقامة علاقات تعاون جادة ومثمرة معها، أو مع بقية دول حوض النيل، تضمن لها أن تحافظ على مصالح مصر، وتؤمن حقوقها التاريخية في مياه النيل، وتكفل السلام والاستقرار في تلك المنطقة الحيوية من العالم.
وبناء عليه، نهر النيل في خطر. هل يجيء وقت قريب نراه يحتضر، لا قدر الله، ما لم تدفع مصر ثمن وصول المياه إليه لحكومة أديس أبابا. عموما تبقي الكرة في ملعب شعب مصر الثائر، والذي سيفرض إرادته على الكل، إن شاء الله.