13 نوفمبر 2024
حسابات السعودية الخاطئة
تجاوزت أسعار النفط، في العام 2014، حاجز مائة دولار للبرميل، وكانت السعودية، باعتبارها أول مصدر لهذه المادة، أكبر مستفيد من هذه القفزة الهائلة في الأسعار. لكن فجأة تم تخفيض الأسعار بنسبة 20%، وتتالت التخفيضات حتى نزلت تحت مستوى 50%، ومرة أخرى كانت الدولة الأكثر تضررا من تدني الأسعار هي السعودية. وكانت المفارقة أن السعودية نفسها هي التي كانت وراء تخفيض أهم مورد يقوم عليه اقتصادها، فهي باعتبارها الدولة الأكثر إنتاجا والأقل استهلاكا لمادة النفط تستطيع التحكم في ارتفاع السعر أو انخفاضه، برفع إنتاجه أو خفضه، طبقاً لقانون العرض والطلب والوفرة والندرة.
كان قرار السعودية "الانتحاري" بتخفيض أسعار النفط آنذاك ذا طبيعة سياسية، وموجها بالأساس إلى خصميها في المنطقة، إيران وروسيا، اللتين يستند اقتصادهما، إلى حد كبير، على تصدير النفط، باعتبارهما من كبار المنتجين والمصدرين العالميين له.
كانت خطة السعودية واضحة، تقوم على استخدام النفط سلاحا سياسيا، تماما كما تم استعماله في الحرب الباردة نهاية ثمانينيات، القرن الماضي، لتحطيم إمبراطورية الاتحاد السوفييتي من الداخل. لكن روسيا التي تعلمت من تجربة "الاتحاد السوفييتي"، وإيران التي تأقلمت مع العقوبات الدولية المختلفة منذ قيام ثورتها عام 1979، لم تقفا ساكنتيْن أمام الخسارة الكبيرة التي كان يسببها لهما انخفاض أسعار النفط. وبينما كان ينتظر رد فعلهما على الساحة الاقتصادية أو النفطية، فاجأ البلدان الجميع برد فعلهما في ساحة أخرى وبأدوات أخرى، أي بالدخول مباشرة إلى الحرب السورية، والنزول إلى أرض الميدان بكل ثقلهما العسكري.
فالسيناريو الذي حدث في ثمانينيات القرن الماضي وأدى إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، لم يتكرر عام 2014. وبدلا من أن يؤدي انخفاض أسعار النفط إلى جعل الحياة صعبة بالنسبة لروسيا وإيران، فإن من تأثر به هي السعودية نفسها التي دخلت عدة حروب بالوكالة، فتحتها على نفسها في المنطقة، وهي في النهاية من دفع ومازالت تدفع فاتورتها الثقيلة.
لقد تصرف حكام السعودية مثل الشرطي الذي طُلب منه أن يطلق النار على قدميه، وفي النهاية ارتمى في حضن عدوه، ليجد الخلاص لنفسه مما اقترفته يداه.
هذا هو السياق الذي يجب وضع زيارة ملك السعودية، سلمان بن عبد العزيز، إلى روسيا، فيه، لفهمها واستيعاب هذا التحول الكبير في الموقف السعودي، بعيدا عن التحليلات التي تحاول أن
تضفي الطابع الاقتصادي على أول زيارة لملك سعودي إلى موسكو، والتي تتحدث عن علاقات اقتصادية ومتنامية بين البلدين، بل ذهب محللون إلى الحديث عن تكامل اقتصادي بين بلدين يعيش اقتصادهما بدرجة متفاوتة الكبر على ريع ما تدرّه صادراتهما من البترول!
أما الحديث عن الدور السعودي المحوري في المنطقة، فهذا حنين إلى ماضٍ أصبح بعيدا، لأن الواقع الجيوستراتيجي اليوم أفرز حقائق جديدة، وقوى إقليمية جديدة محورية، هي تركيا وإيران وإسرائيل، أمام تراجع المحور العربي الذي لم يكن في أي يوم جبهة واحدة أو موحدة. فالسعودية التي كانت قوة محورية أصبحت قوة محاصَرة بخصومها الذين صنعتهم على مدار العقود والسنوات الماضية، إيران من الشرق والمد الشيعي المتنامي في العرق وسورية ولبنان شمالا، وفي اليمن جنوبا، وحتى داخل البيت الخليجي أدت سياسات حكام السعودية الجدد إلى زرع بوادر شقاق داخل التحالف الخليجي الذي كانت السعودية تستعمله سلاحا للضغط على خصومها وورقة تفاوض مع حلفائها.
استفاقت السعودية بعد مرور زهاء قرن على وجودها على الخطأ الذي تأسست عليه من البداية، عندما سلّم مؤسسوها مفاتيحها بداية القرن إلى أميركا، وبعد الخذلان الأميركي الذي أحس به حكام السعودية في حرب سورية، وفي صراعهما العقائدي مع إيران، يريدون اليوم تحويل اتجاه السياسة السعودية شرقا نحو روسيا، حتى لا يبقى اعتمادها كليا على واشنطن وحدها.
ولأكثر من نصف قرن، كانت السعودية تعتبر الولايات المتحدة الحليف الرئيسي لها. ومع تنامي الدور الروسي في المنطقة، والذي أصبح أكثر حضورا وفاعلية من الدور الأميركي المتراجع، والدور الأوروبي المشتت، يسعى حكام السعودية اليوم إلى نهج سياسة براغماتية، لكن عقيدتها السياسية التي تقوم على معاداة روسيا باعتبارها "دارا للإلحاد" لن تقنع شركاءها الجدد بقدرتها على تغيير جلدها بهذه السرعة.
فالسعودية كانت تكنّ عداء عقائديا للاتحاد السوفييتي السابق، وتمثّل عداؤها في تقديم الدعم المباشر للحركات الإسلامية المضادة للشيوعيين في العالم، وبمشاركتها في الحرب الأميركية ضد الغزو السوفييتي لأفغانستان، ودعمها تمرد الشيشانيين ضد موسكو في جمهورية الشيشان، وحتى اللحظة التي قرّر فيها الملك سلمان الحج إلى الكرملين، مازالت السعودية وروسيا تخوضان حربا بالوكالة بينهما على الأرض السورية.
اختارت الرياض الوقت غير المناسب للتوجه شرقا، فهي اليوم أهون من أن يسند لها أي دور إقليمي مؤثر، بسبب الحروب التي فتحتها على نفسها وأنهكت ميزانياتها، وفي ظل التحولات الدراماتيكية التي يعيشها بيتها الداخلي، والتي لا يُعرف إلى الآن كيف ستنتهي، فعمليات الإصلاح القسرية لن تمر من دون أن تترك آثارها العميقة في جسم سعودي منهك.
كان قرار السعودية "الانتحاري" بتخفيض أسعار النفط آنذاك ذا طبيعة سياسية، وموجها بالأساس إلى خصميها في المنطقة، إيران وروسيا، اللتين يستند اقتصادهما، إلى حد كبير، على تصدير النفط، باعتبارهما من كبار المنتجين والمصدرين العالميين له.
كانت خطة السعودية واضحة، تقوم على استخدام النفط سلاحا سياسيا، تماما كما تم استعماله في الحرب الباردة نهاية ثمانينيات، القرن الماضي، لتحطيم إمبراطورية الاتحاد السوفييتي من الداخل. لكن روسيا التي تعلمت من تجربة "الاتحاد السوفييتي"، وإيران التي تأقلمت مع العقوبات الدولية المختلفة منذ قيام ثورتها عام 1979، لم تقفا ساكنتيْن أمام الخسارة الكبيرة التي كان يسببها لهما انخفاض أسعار النفط. وبينما كان ينتظر رد فعلهما على الساحة الاقتصادية أو النفطية، فاجأ البلدان الجميع برد فعلهما في ساحة أخرى وبأدوات أخرى، أي بالدخول مباشرة إلى الحرب السورية، والنزول إلى أرض الميدان بكل ثقلهما العسكري.
فالسيناريو الذي حدث في ثمانينيات القرن الماضي وأدى إلى انهيار الاتحاد السوفييتي، لم يتكرر عام 2014. وبدلا من أن يؤدي انخفاض أسعار النفط إلى جعل الحياة صعبة بالنسبة لروسيا وإيران، فإن من تأثر به هي السعودية نفسها التي دخلت عدة حروب بالوكالة، فتحتها على نفسها في المنطقة، وهي في النهاية من دفع ومازالت تدفع فاتورتها الثقيلة.
لقد تصرف حكام السعودية مثل الشرطي الذي طُلب منه أن يطلق النار على قدميه، وفي النهاية ارتمى في حضن عدوه، ليجد الخلاص لنفسه مما اقترفته يداه.
هذا هو السياق الذي يجب وضع زيارة ملك السعودية، سلمان بن عبد العزيز، إلى روسيا، فيه، لفهمها واستيعاب هذا التحول الكبير في الموقف السعودي، بعيدا عن التحليلات التي تحاول أن
أما الحديث عن الدور السعودي المحوري في المنطقة، فهذا حنين إلى ماضٍ أصبح بعيدا، لأن الواقع الجيوستراتيجي اليوم أفرز حقائق جديدة، وقوى إقليمية جديدة محورية، هي تركيا وإيران وإسرائيل، أمام تراجع المحور العربي الذي لم يكن في أي يوم جبهة واحدة أو موحدة. فالسعودية التي كانت قوة محورية أصبحت قوة محاصَرة بخصومها الذين صنعتهم على مدار العقود والسنوات الماضية، إيران من الشرق والمد الشيعي المتنامي في العرق وسورية ولبنان شمالا، وفي اليمن جنوبا، وحتى داخل البيت الخليجي أدت سياسات حكام السعودية الجدد إلى زرع بوادر شقاق داخل التحالف الخليجي الذي كانت السعودية تستعمله سلاحا للضغط على خصومها وورقة تفاوض مع حلفائها.
استفاقت السعودية بعد مرور زهاء قرن على وجودها على الخطأ الذي تأسست عليه من البداية، عندما سلّم مؤسسوها مفاتيحها بداية القرن إلى أميركا، وبعد الخذلان الأميركي الذي أحس به حكام السعودية في حرب سورية، وفي صراعهما العقائدي مع إيران، يريدون اليوم تحويل اتجاه السياسة السعودية شرقا نحو روسيا، حتى لا يبقى اعتمادها كليا على واشنطن وحدها.
ولأكثر من نصف قرن، كانت السعودية تعتبر الولايات المتحدة الحليف الرئيسي لها. ومع تنامي الدور الروسي في المنطقة، والذي أصبح أكثر حضورا وفاعلية من الدور الأميركي المتراجع، والدور الأوروبي المشتت، يسعى حكام السعودية اليوم إلى نهج سياسة براغماتية، لكن عقيدتها السياسية التي تقوم على معاداة روسيا باعتبارها "دارا للإلحاد" لن تقنع شركاءها الجدد بقدرتها على تغيير جلدها بهذه السرعة.
فالسعودية كانت تكنّ عداء عقائديا للاتحاد السوفييتي السابق، وتمثّل عداؤها في تقديم الدعم المباشر للحركات الإسلامية المضادة للشيوعيين في العالم، وبمشاركتها في الحرب الأميركية ضد الغزو السوفييتي لأفغانستان، ودعمها تمرد الشيشانيين ضد موسكو في جمهورية الشيشان، وحتى اللحظة التي قرّر فيها الملك سلمان الحج إلى الكرملين، مازالت السعودية وروسيا تخوضان حربا بالوكالة بينهما على الأرض السورية.
اختارت الرياض الوقت غير المناسب للتوجه شرقا، فهي اليوم أهون من أن يسند لها أي دور إقليمي مؤثر، بسبب الحروب التي فتحتها على نفسها وأنهكت ميزانياتها، وفي ظل التحولات الدراماتيكية التي يعيشها بيتها الداخلي، والتي لا يُعرف إلى الآن كيف ستنتهي، فعمليات الإصلاح القسرية لن تمر من دون أن تترك آثارها العميقة في جسم سعودي منهك.