لم تعد إسرائيل بحاجة، منذ قصف قاعدة "التيفور" في سورية، إلى الاختباء وراء هامش الإنكار، أو وراء تلميحات وإشارات هي أقرب إلى التصريح منها إلى التلميح، في كل ما يتعلق بالحرب الإسرائيلية ضد الوجود الإيراني في سورية، حتى لو جرت هذه الحرب وفق العقيدة الإسرائيلية تحت مسمى "المعركة بين الحروب" والهادفة إلى إضعاف قوة العدو قبل الوصول إلى نقطة المواجهة المباشرة.
وقد بات يكفي، كما حدث مع الهجوم على قاعدة "التيفور" أو قصف مواقع للنظام في ريفي حماة وحلب ليل الأحد ـ الإثنين، ألا تعلن الولايات المتحدة مسؤوليتها عن القصف والهجوم تجنباً لرد روسي، وأن تعلن وسائل إعلام إسرائيلية أن الهجوم استهدف مواقع للنظام أو مواقع لإيران، بقوة لا تملكها المعارضة السورية بل دولة منظمة، ليكون واضحاً للجميع أن من يقف وراء الهجوم هو دولة الاحتلال. قبل أن تتوالى بعد ذلك تفاصيل كثيرة يكون الإعلام الإسرائيلي، المستأثر أكثر من غيره بسبق نشرها وتعميمها، حتى من دون الحاجة إلى ذكر مصادره في الحصول عليها.
ولعل من أبرز سمات هذه المرحلة مثلاً، أو الخط الإسرائيلي الجديد، هو مسارعة جنرالات سابقين في الجيش الإسرائيلي، (لنفي الصفة الرسمية الملزمة عن تصريحاتهم، وبشكل خاص الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية، الجنرال عاموس يادلين، الذي يدير مركز أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب)، للتنقّل بين استوديوهات القنوات وحتى المواقع الإسرائيلية المختلفة لتأكيد الدور الإسرائيلي، وسط محاولات يعرف الجميع أنها مفضوحة ولمجرد "إسقاط الواجب" للإبقاء على ضبابية ما. وهو ما حدث أمس مرة أخرى في حالة الهجوم على مواقع النظام في ريفي حماة وحلب، عندما أبلغ يادلين الإذاعة العسكرية الإسرائيلية، أن "الهجوم المذكور لا يمكن أن يكون إلا من صنع دولة، وليس قوات الثوار"، وأنه "إذا لم تكن هذه الدولة الولايات المتحدة فإنه لا يستطيع الإشارة أو التأكيد على هوية الدولة الأخرى القادرة على تنفيذ هذا الهجوم". وإذا لم يكن هذا اعترافاً واضحاً وكافياً، فإنه يضيف أن "للإيرانيين حسابا مفتوحا معنا، وقد جاءتهم هذه الضربة حتى قبل أن ينفذوا ردهم على قصف قاعدة التيفور".
ويفضي هذا بعد الإشارة إلى النسق الإسرائيلي في التعامل مع الضربات الإسرائيلية للمواقع التي تستضيف القوات أو القواعد الإيرانية في سورية، إلى المضي نحو القول بأن الهجوم الأخير مع ما سبقه من هجمات استهدفت قاعدة التيفور، يعني عملياً أن الحرب والمواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل على الأرض السورية قد بدأت فعلاً، منذ اعتراض الطائرة الإيرانية المسيّرة، في السادس من فبراير/شباط الماضي، لكن إيران لم ترد بعد على ضربتين تلقتهما حتى الآن رغم توجيهها تهديدات مباشرة.
مع ذلك، لا يمكن أيضاً سواء اعترفت دولة الاحتلال رسمياً بما حدث في سورية واستهداف مواقع النظام في ريفي حلب وحماة، أم لم تعترف، وفضّلت التلاعب بعبارات مبهمة أو بلغة التلميح الأقرب منه إلى التصريح، إذ لا يمكن عزل الهجوم الأخير، عن جولة وزير الخارجية الأميركي الجديد، مايك بومبيو، للمنطقة وتصريحاته في السعودية وما تبعها لاحقاً من تصريحات في تل أبيب، من أن "الولايات المتحدة تقف إلى جانب إسرائيل في صراعها ضد إيران". وإذا كان هذا غير كاف، فقد جاء التصريح الصادر عن البيت الأبيض من أن "الرئيس دونالد ترامب أجرى اتصالاً هاتفياً مع بنيامين نتنياهو قبل الضربة، وقبل بدء لقاء رئيس الحكومة الإسرائيلية مع مايك بومبيو".
وقد عكست تصريحات بومبيو ونتنياهو وقبلها تصريحات وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، حقيقة توافق إلى حدّ التطابق في الموقف المشترك لكل من السعودية وأميركا وإسرائيل، في سياق التعامل مع الوجود الإيراني في سورية، وتكريس إيران كقوة أولى في سبب حالة عدم الاستقرار في المنطقة.
كما أنه لا يمكن أيضاً عزل كل ذلك عما كشفته القناة الإسرائيلية العاشرة، أمس الأول، بشأن التصريحات التي أدلى بها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، خلال لقاءاته الأخيرة، في جولته الأميركية، مع رؤساء المنظمات اليهودية الأميركية وقوله أمامهم إن "القضية الفلسطينية لا تتصدر أولويات الحكومة السعودية، وأن هناك مواضيع ملحّة أكثر وذات أهمية أكبر لمعالجتها، مثل إيران".
وإذا كان كل هذا غير كاف، فقد اعتبر المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، عاموس هرئيل، في تحليل نشره أخيراً، أنه "بعد الضربة المنسوبة لإسرائيل في سورية، وهي الخامسة منذ شهر سبتمبر/أيلول الماضي، يبدو أنه لم يعد هناك مجال للشك: إسرائيل مصممة على القتال لطرد الوجود الإيراني العسكري من سورية".
وبحسب هرئيل، والإذاعة الإسرائيلية التي تحدثت هي الأخرى عن ضرب مواقع إيرانية في سورية، فإن "الضربة المذكورة في هذا التوقيت بالذات وبهذه القوة المدوية، يمكنها أن تؤشر على ضرب مخزن سلاح كبير، وتبعاً لذلك أيضاً فإنها محاولة لتشويش أي رد إيراني محتمل. وبالتالي يمكن الافتراض بالتالي أنه لولا ذلك لما تمّت هنا مجازفة كهذه من طرف إسرائيل بشكل مباشر مع إيران، ترسّم فيه إسرائيل خطوطا حمراء تبدي استعداداً لفرضها بالقوة".
وهذا الأمر يلتقي مع التصريحات والتهديدات التي وجّهها، يوم الأحد الماضي، من واشنطن، وزير الأمن الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، بأن "إسرائيل ستدافع عن حرية عملها العسكري في سورية"، مضيفاً، في المؤتمر السنوي لصحيفة "جيروزاليم بوست" المنعقد في الولايات المتحدة، أن "من يعتقد أن الصواريخ ستنطلق من سورية باتجاه إسرائيل أو طائراتها، ليكن واثقاً أننا سنردّ بقوة". وبحسب هرئيل، فإنه "ولكون إيران ترفض التسليم بالخطوط الحمراء الإسرائيلية ولا بالوسائل التي تستخدمها إسرائيل في هذا السياق، فإن المواجهة التي بدأت هذا الأسبوع مرشحة لمزيد من التصعيد".
ورأى هرئيل، في هذا السياق، أنه "في مواجهة الاتجاهين الرئيسيين في المنطقة المتمثلين في انتصار محور النظام مقابل الانسحاب الأميركي، فإن إسرائيل تشهد تحولاً مغايراً: محاولة طرد إيران من سورية مع بدء تبلور توافق شبه كامل بين المستوى السياسي والعسكري في هذا المجال".
وكغيره من المحللين مثل بن كاسبيت وألون بن دافيد، لفت هرئيل إلى أن "نتنياهو يعيش حالة تصميم على مواجهة إيران، ولو بثمن مواجهة عسكرية مع روسيا"، معتبراً أن "نتنياهو يملك روح ترامب وينطلق من حسابات تقول إن إيران حذرة في ردّها، لأنها تتخوّف من رد أميركي غاضب في حال ارتكابها خطأ ما. وهو ما يرتبط حالياً بالتهديد الأميركي بالانسحاب من الاتفاق النووي، حتى 12 مايو/أيار الحالي، موعد قرار ترامب بهذا الخصوص".
إلى ذلك، فإن نتنياهو وإيران ينطلقان على ما يبدو من حسابات تفيد باحتمال رد أميركي غاضب من قبل ترامب على تصعيد إسرائيلي - إيراني، بتسريع الانسحاب من الاتفاق المذكور. ويبدو أن حكومة الاحتلال الإسرائيلي، تستمد هي ورئيسها القوة في التصعيد ضد إيران، لغة وممارسة، من دعم أميركي واضح في ظل إدارة ترامب، خلافاً لسياسة الولايات المتحدة في عهد إدارة الرئيس السابق باراك أوباما. إذ أنه من الواضح أن زيارة بومبيو لتل أبيب والاتصال الهاتفي بين نتنياهو وترامب قبل اللقاء مع بومبيو، شكّلا مساندة أميركية واضحة من واشنطن لرياح الحرب الإسرائيلية. وأضاف هرئيل أنه "يتبلور انطباع بأنه لو تفرّغ بومبيو للبقاء في إسرائيل ساعات إضافية، لكانوا اقترحوا عليه أن يصعد لقمرة ربان الطائرات وإطلاق صواريخ عدة بنفسه".
مع ذلك، فإن هرئيل، وعلى غرار بن كاسبت في "معاريف"، قبل أيام عدة، يحذّر من أن "من شأن الحسابات الإسرائيلية أن تخيب كلياً إذا خرجت ألسنة اللهب المتصاعدة في سورية عن السيطرة، وفي حال قررت إيران، خلافاً للتقديرات السابقة، أن تدفع بحزب الله إلى المعركة، مثلاً بعد الانتخابات النيابية في لبنان المقررة يوم الأحد المقبل".
ويكرر هرئيل، في هذا السياق، التقديرات الإسرائيلية بأن "حزب الله اكتسب في حربه إلى جانب النظام في سورية خبرات قتالية، ناهيك عن حيازته ترسانة صاروخية مكونة من مائة ألف صاروخ، وهو قادر في حالة الحرب رغم أن قوته العسكرية ليست أكبر من قوة الجيش الإسرائيلي، أن يسبّب أضراراً حقيقية في الجبهة الداخلية، وأن يجبي من الجيش الإسرائيلي ثمناً غير بسيط في مواجهة برية على أرض لبنان".
سيناريو من هذا النوع من شأنه أيضاً أن يجرّ حركة حماس في القطاع، بحسب تحذيرات سابقة لليبرمان، ليخلص هرئيل إلى الاستنتاج أن "هناك على ما يبدو فجوة بين اللهجة التي يعتمدها مسؤولون إسرائيليون رفيعو المستوى، وبين مخاوفهم الحقيقية، لا سيما وأن إسرائيل نجحت لغاية الآن في بناء آلية تنسيق ناجعة لمنع الاحتكاك مع القوات الروسية في الأجواء السورية، فهل ستقرر روسيا يوماً أنها ملّت من الإملاءات الإسرائيلية؟".