شوارع الحراك الشعبي في الجزائر العاصمة ومختلف مدن البلاد، لا تقتصر على الرجال، فهناك نساء وفتيات كثيرات يخضن الحراك، ويطلقن المطالب نفسها ضد الفساد والظلم الاجتماعي، ويعبرن عن رأيهن الصريح حيال مآسي الماضي وآمال المستقبل
يوم الجمعة بالنسبة لأم أمين "موعد مع الحقّ". الشارع هو الملجأ الوحيد لها لتصرخ بصوتها "ضد الظلم" إذ أصبحت هذه الأم المكلومة حاضرة أسبوعياً بقوة في المسيرات المليونية بالجزائر، هي التي اختفى ابنها في 27 فبراير/ شباط 1996، ولم تسمع عنه حتى يومنا هذا أيّ خبر.
تستعدّ أم أمين بعد الصلاة للخروج في الوقفات الاحتجاجية، والمشي بالرغم من تقدمها في السنّ، إذ لا تتوانى عن الالتقاء بشباب من العمر الذي كان عليه ابنها عندما اختفى قسرياً، فتطفئ من خلالهم قليلاً من "احتراق القلب" هي التي ما زالت تحمل صورة ابنها، وتتوشّح بالراية الوطنية، منذ سنوات، ولم تتوقف عن المطالبة بمعرفة حقيقة اختفائه قبل 23 عاماً.
كغيرها من النساء الجزائريات ممن يتقاسمن الوجع نفسه، ولم تشفه كل المُسكِّنات والتعويضات التي أرادتها السلطة لأجل "طيّ ملف المفقودين" وجدت أم أمين فرصة الحراك الشعبي لتحرّك معه "الملف الذي يبقى لغماً أراد له البعض الإغلاق بتعويضات مالية". هي مثل كثيرين، رفضت الحصول على المال مقابل الحقيقة: "لم أسكت عن المطالبة بحقي في معرفة مصير ابني. وبات الحراك الشعبي، ومسيرات يوم الجمعة عزاء أسبوعياً أشعر فيه أنّ ألمي هو نفسه ألم كلّ الجزائريين المظلومين ممن يرفضون البقاء في حفرة الظلم".
هي ثورة شعبية حقيقية في نظر نساء كثيرات من مختلف الفئات، ممن عايشن فترة العشرية السوداء (الحرب الأهلية 1991- 2002)، إذ تعتبر الناشطة، صورية بوعمامة، أنّ الحراك قلَب الموازين منذ استقلال الجزائر (1962)، وأصبحت تستعد لكلّ يوم جمعة كاستعدادها للقيام بمهمة والبحث عن ربح قضية. تقول لـ"العربي الجديد": "أنا أعيش فعلاً الثورة الحقيقية الأكبر منذ استقلال البلاد، وهو حراك لا يقل أهمية عن الفاتح من نوفمبر/ تشرين الثاني يوم إعلان الثورة التحريرية في العام 1962، والشعب فيها هو البطل الحقيقي".
كلّ يوم جمعة، لا تتأخر بوعمامة التي عاشت سنوات العشرية السوداء، في "رعب كبير" في التحضير للمسيرة بالراية الوطنية، إذ تحمل معها عدداً معتبراً من أعلام الجزائر لتوزعها على المارة بساحة أودان، في قلب العاصمة. هناك، تلتقي بالشباب في حلقات من شأنها توسيع الوعي ومناقشة الحلول أيضاً، ملتزمة بـ"قبول الرأي الآخر" فضلاً عن كونها في كلّ جمعة تتعرف بأشخاص من ولايات عدة وتستكشف مدى وعي شباب اليوم، على حد قولها. تعتبر أنّ "الحراك صرخة شعب في وجه نظام فاسد وعصابة سياسية وأخرى اقتصادية جعلت من الجزائر، هذا البلد الغني الكبير، ملكية شخصية توفر الرفاهية والثراء لمجموعة تعدّ على أصابع اليد والأغلبية تعيش تحت خط الفقر". تتابع أنّ الجمعة بالنسبة لها ولكثيرين "استجابة لنداء وطن، ونداء شعب، هو نداء الضمير. والغياب عن الحراك خيانة لأمانة الشهداء، واستهزاء واستهتار بمستقبل أبنائنا". تؤكد أنّ "حضور المرأة منذ بداية الحراك كان قوياً، فقد استجابت منذ النداءات الأولى. نجد داخل الحراك المرأة الأم، والشابة والجدة والمثقفة والأمّية، والأجمل حضور أيقونة النضال ورمز المرأة الجزائرية وأشهر امرأة جزائرية على الإطلاق المجاهدة جميلة بوحيرد التي أعطت لحضور المرأة بعداً ثورياً وتزكية من امرأة تحدت أكبر قوة للحلف الأطلسي وكابدت التعذيب والسجن من أجل جزائر حرة مستقلة مزدهرة".
أما الأستاذة في الإعلام والاتصال شهرزاد لمجد القاسمي، فهي من بين من خرجوا عام 2014 لرفض الولاية الرابعة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. واليوم لا تتأخر عن أيّ مسيرة. تستعد القاسمي كلّ ليلة جمعة بكتابة شعارات توزّعها على الشباب، أو تنظم حلقة تفاعلية مع مختلف الشرائح. تأتي من حي تسالة المرجة، الذي يبعد بـ 25 كيلومتراً عن قلب العاصمة الجزائرية، لتصل إلى ساحة البريد المركزي: "هناك أتبادل أطراف الحديث والنقاش والمواضيع المتعددة مع الجموع الغفيرة، وأسجل كلّ نقطة من النقاط التي يمكن من خلالها طرح حلول للأزمة التي تعيشها الجزائر". توضح لـ"العربي الجديد" أنّها تطمح لأن ترى الجزائر جمهورية حقيقية لا مملكة، لافتة إلى أنّ "المرأة أعطت دفعاً قوياً للحراك انطلاقاً من حضورها الكثيف في التظاهرات وتقديم العون للرجال، من خلال توزيع المأكولات والحلويات والتمور، فضلاً عن رفع شعارات لا يمكن إلاّ لامرأة متمسكة بمبادئ الاستقلال الجزائري أن ترفعها".
"انحازت المرأة للحراك وتجاوزت عقدة الظهور أمام الكاميرا، فباتت وسائل التواصل الاجتماعي مليئة بصورها، كما أعطت للمسيرات بعداً سلمياً وجمالياً" بحسب الإعلامية، زهور شنوف، التي تناضل هي الأخرى من أجل حرية التعبير وممارسة مهنة الصحافة من خلال الشارع. تقول إنّها لم تتخلف يوماً عن مسيرات الجمعة: "أسابق للوصول إلى شارع ديدوش مراد، حتى أتواصل مع زملاء عرفتهم خلال المسيرات. لدينا الهدف نفسه وهو الوقوف ضد الفساد، كما الضغط لتنحي العصابة" على حد تعبيرها. تؤكد أنّها تساهم في الحراك الشعبي من خلال إضفاء السلمية والتحضر والاحترام والانضباط الذي أبهر العالم.
لم تتوقف الأستاذة الحقوقية والمحامية، فريدة بلفراق، من ولاية باتنة، عن تمرير دعوات الخروج في المسيرات منذ شهر فبراير/ شباط الماضي، ومعها "رسائل الغضب" ضد الفساد بحكم منصبها في كلية الحقوق بجامعة "باتنة". نظّمت رفقة زملاء لها مجموعة من الداعين لرفض الولاية الخامسة لبوتفليقة، ومنذ ذلك الحين، لم تتغيب عن مسيرات المحامين والقضاة في الأيام العادية. تقول لـ"العربي الجديد": "أما مسيرات الجمعة فأتجند لها رفقة أفراد من عائلتي وزملائي، إذ استغليت حسابي على فيسبوك، لأعلن من خلاله عن مواعيد الاحتجاجات والمسارات الأولية للمسيرات في باتنة".
تتفق كل الحَراكيات، على أنّ الوضع الحالي للجزائر غير مطمئن، وهو ما يدفعهن للخروج في المسيرات، إذ كسرت المرأة من مختلف الفئات الحواجز، وخرجت تنادي بأعلى صوتها ضد الفساد، وضد الظلم، و"معاً للتغيير" فشارع الثورة الشعبية في الجزائر لا يمكن تأثيثه إلاّ بحضور المرأة والرجل معاً.
الحاجة زهية حاضرة دائماً
كانت بمكنستها الخضراء من بين من استقبلوا رئيس الحكومة والوزراء عند مدخل محكمة الجزائر، لدى استدعائهم للتحقيق في قضية فساد. وكلّ يوم جمعة، تحمل الحاجة زهية تلك المكنسة التي تريد أن تكنس الفساد بها، وعلى ظهرها علم الجزائر، وتتجه إلى قلب المسيرات الشعبية، حتى صارت من أيقونات الحراك، كما تخرج في مسيرات الطلاب كلّ ثلاثاء.