ثقافة الاعتذار

25 يونيو 2018
+ الخط -
ثقافة الاعتذار أو التسليم بالرأي الآخر غير موجودة في عالمنا العربي، وإن وُجدت تكون نادرة. إلى ماذا يعود السبب؟ يعود أولاً إلى طبيعة العالم العربي الذكوريّ الهوى أساساً، والذي يعتبر أن "من عناصر القوة عدم التراجع عن الرأي"، ما يؤدي حكماً إلى صداماتٍ، وبالتالي إلى حروبٍ حتى. يحدث أن تتجادل مع صديقٍ لك، وتعلم أنك مخطئ، لكن "كبرياءك" يمنعك من الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه، وصديقك حين يعلم ذلك يأخذ باستفزازك، في سبيل إخراجك من طورك، لأنك أخرجته من طوره، بسبب عدم اعترافك بالخطأ. النتيجة؟ صدام حتمي مبنيّ على كبرياء غير صحيحة، ومنتجة لظروف زمنية غير سليمة. لنقلب الآية: اعترفت لصديقك بأنك مخطئ، وهو تقبّل اعترافك هذا، ثم جلستما تشربان فنجاني قهوة، في ظلّ استمرار النقاش في مواضيع شتّى. النتيجة؟ تطوير ذاتي للأفكار والآراء وفقاً لنقاشات متتالية.
الآن، تعلمون لماذا عالمنا العربي رافض أساساً مبدأ الاعتذار أو التراجع عن الخطاً. ليست القضية متعلقة بإشباع غرائز، بقدر ما أنها مرتبطة أساساً بتنميطٍ اجتماعيٍّ تمّ إسقاطه بصورة بطريركية على المجتمعات العربية عبر العصور، ليُصبح من الصعب تغيير المعادلة، وتطبيق ثقافة الاعتذار أو التراجع عن الخطأ، لكن ذلك لا يعني حتمية إبقاء الأمور على ما هي عليه. نحتاج حقاً إلى تغيير مفاهيمنا لتطوير مجتمعاتنا، وتفكيك كل ما يمكن أن يعرقل مسارنا البشريّ في الكون. الأهم أن نبدأ في سؤال أنفسنا "لماذا لا أجرّب ثقافة الاعتذار أو التراجع عن الخطا؟ ماذا سأخسر؟ صورتي؟ شخصيتي؟ سمعتي؟". لا لن تخسر شيئاً، بل على العكس، إنك تفسح المجال أمام تطور عقليّ هائل، يفيدك في يومياتك البسيطة وأفكارك الواسعة. أي في كل المجالات التي يُمكن أن تحلم بها.
عليه، لو أن الأنظمة العربية تعتذر من شعوبها، أو أن الشعوب تعتذر من بعضها بعضا، أو إطلاق موجة اعتذارٍ داخل الشعب الواحد، من شأنه تبديل مسارات الشعوب نحو الأفضل. ليس المطلوب اعتذاراً تحت الضغط أو القوة أو تسييراً، بل اعتذاراً على المستوى التخييري، يسمح فيه الإنسان، فردا ومجتمعات، لتفاعل ثقافة الاعتذار في داخله بصورة إيجابية، لا أن تكون مقدمةً لحقدٍ آخر، أو شعور بالهزيمة. ليس الأمر صعباً على الإطلاق. يكفي أن تنظر إلى المرآة صباح كل يوم، وتعتذر من ذاتك أولاً على تشويهها بقشورٍ سيطرت على جوهر شخصيتك، ثم تبدأ بممارسة ثقافة الاعتذار والتراجع عن الخطأ بحق محيطك، وهلمّ جرّا. ليس المطلوب الخنوع بل تكريس شجاعةٍ نحتاجها في عالمنا العربي. ليس من الخطأ اعتذار الأهل لأبنائهم، ولا من الخطأ اعتذار الشرطة لمواطنيها، ولا من الخطأ اعتذار المدراء لموظفيهم، ولا من الخطأ اعتذار الدولة من الشعب. لا خطأ في ذلك كله، بل خطوة ضرورية لتحقيق التنمية المطلوبة، فكرياً واجتماعياً.
قد تكون عقبة "من يبدأ أولاً بالاعتذار" الحاجز الأخير، لكنه من السهل تجاوزها بمجرّد عدم التفكير بذلك، والركون إلى جوهر شخصيتك التي تؤكد لك أن "هناك خطأ ما وعليك تصحيحه". هناك كمّ هائل من الاعتذارات المجتمعية، بحقّ ذاتنا أولاً، وبحق أماكن سكننا، في مطلق وطنٍ ثانياً. نحتاج إلى إدراك أن تلك الثقافة لا تعني سقوطنا في فخّ غربي أو إفرنجي، بل يفسح المجال أمامنا لتقدّمٍ هائلٍ في شتى القطاعات. وفي حال لم نرد تغيير ذواتنا، فإن التغيير سيعبر على جثثنا بسهولة عبوره في مراحل تاريخية سالفة، فالتراكمات أياً كان، إيجابية أو سلبية، مؤدية إلى محطة مفصلية، يتغيّر فيها مسار مجتمع. كل المطلوب منا هو السيطرة على هذا المسار، ولا نتركه يسيطر علينا في أي وقتٍ. حينها قد لا نكون قادرين على معالجة الوضع. الانسان آلةٌ وقودُها الأفكار وعَجَلَتها الزمن ومنتجة للتجارب.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".