تُرى ما هي آخر أخبارنا؟

01 ديسمبر 2019
(من سلسلة "جدران غزّة" 2001، تيسير بطنيجي)
+ الخط -

يفتنني الوجه البشري بالخصوص، والجسم كلّه بالعموم. وهنا "معرض دائم"، للتأمّل في وجوه وأجساد بشرية، ما كانت يوماً "نتاج هذه الطبيعة وهذا الجنس" - إذا استعرنا جيمس جويس. ومع أنّ معظم هؤلاء، مكتهلون أو عواجيز، إلّا أنه لا يندر أن تجد بينهم، صبايا ونساء شابّات. فإذا حصل، فتكون حينئذ النعمة.

يشدّني أولاً: الوجه/ التقاسيم والملامح. فإن أعجبتني، انحدرتُ بالنظر. واليوم، مرّت ثلاث صبايا، وكأنهنّ ثلاثة أحلام. جمال مختلف، كل واحدة عن الأخرى. جمال شاعري للأولى، وشهواني للثانية، ومريميّ للأخيرة. وكلهنّ يصلحن ملكات للجمال.

- هذا ما تفتقر إليه غزّة. أقول لبعض المرافقين، ونحن على عتبة الفندق.

- هذا بس؟ يُعقّب أحدهم.

- ملعون أبونا. والله محنا عايشين. يعقّب مرافق ثان.

- بدْكم حماس وبدكم تعيشوا! يعقّب الطبيب التابع لدحلان، والذي جاء كمرافق لأمّه، وهو ينفلت شامتاً.

- إِلتهي. أردّ عليه.

ونضحك جميعنا...

رؤية ناس مختلفين، لا شكّ توسّع أفق المرء. هذه بديهية لا يعرفها المحاصَرون في القفص. وبهذا، تكون إحدى نتائج حصارنا الفظيع، أننا لا نرى هذا الجمال. أهمس لأخي وأبتسم متأسّفاً.

- أشياء كثيرة خسرناها. ويا ليتك تتذكّرها يا حليف الجمال!

- معلش. كلٌ يغني على ليلاه.

نصعد للغرفة، ودفعة واحدة، نستلقي، وكأنّ العالم خلا من الكلمات.

الجارة، في الغرفة الملاصقة، تصرخ من ألم سرطانها الذي وصل إلى عظام الفخذين. أخوها الطيب المسكين، يخفّف عنها. هيهات!

أدقّ بابهم، وأشير عليه بضرورة نقلها للمستشفى.

أتصل بهم في المطلع، فيقولون: مفيش سيارة إسعاف. هاتها بتكسي!

اللعنة! مستشفى بلا سيارة إسعاف؟ كيف!

لا فائدة. نحمل المريضة، وهي امرأة في الأربعينيات، على كرسي، وننزل بها السلالم، يحيطنا معظم مرضى غزة مع مرافقيهم. فالجميع في غرفهم تقريباً، وصائمون، وضجرون.

نأتي بسيارة أجرة، وأصرّ على أخيها ألا يعود بها.

- خلّيهم ينيموها غصبن عنهم. بالذوق بالعربدة لازم تنام هناك.

يتجمهرون حولنا على باب الفندق. ويبدأون باللعنات على إدارة المستشفى وإهمالها.

- لازم تكتب مقال عنهم. مش أنت صحفي؟

- حاضر. صبركم عليّ.

- هذا واجبك.

- أعرف. بس صبركم عليّ.

- الأنذال. عمرك شفت مريضة بتنام في فندق؟ ليش اخترعوا المستشفيات عاد؟

ثم نتفرّق.

هي جارتي أيضاً في مخيم خان يونس. وأخوها من أنسبائي. شيوعي قديم، ورجل ابن بلد ونشميّ. سأكلّم أحد الأطباء، وأوبّخه على رميّها في وجه أخيها. يا أخي ماذا تفعل ممرضاتكم؟ الناس معها حق. فإن لم يُبدّل ويغيّر، فسأكتب مقالاً.

نجتمع مرة ثانية، كلنا تقريباً، على الإفطار. اليوم إفطارنا مقلوبة سمك. وسلطات. وبعض الحوادق.

نأخذ القدرة الكبيرة، ونصعد لفوق. نوزّع على الجميع، في نقطة التجمّع عند الغرفة "211" خاصتنا. يزيد الطعام، فأنزل به تحت. ثم أصعد، وأتناول الوجبة، في صحنين كبيرين، مع أخي، على الأرض. نفرش ورق جريدة القدس، التي يشتريها أخي يومياً، ونفطر على ما تيسّر.

بعدها ننزل لتناول الشاي والقهوة من البوفيه المفتوح بالطابق الأول. هناك نلتقي بالطفل البهيّ الصبوح: وحيد. إنه وحيد والديه بالفعل، ومصاب بسرطان غامض، يصيب ما نسبته 8 في الألف. طفل في التاسعة، دائم المرح والحركة. أراه وألاعبه، بينما قلبي مكسور. فحرام أن يموت مبكراً كلُّ هذا الجمال.

ألاحظ أنّ أباه الشاب يتعامل معه بنزق أحياناً. ربما تعب الأب من مهمة المرافقة الثقيلة، ومن شقاوة الصبيّ. فمهمات كهذه تحديداً، الأمهات أصلح لها من الآباء.

... تدخل شابتان من البرازيل. سُمرة أميركا اللاتينية الأقرب إلى اللون البرونزي. خفيفتا دم، ومُسمسمتان. جرمهما صغير نسبياً. وفي عينيْ واحدة منهما حزن وحشي. أنصت إلى اللغة ذات الجرس الموسيقي. حرف السين يتكرّر كثيراً في حوارهما. مثل اللغة اليونانية. تعبران عنا وتحيّيانا.

- لطيفون هؤلاء الأجانب. يهمس أخي، ويُكمل: بالهم رايق.

- لكل امرئ ما يكفيه من الهموم. لا تغرّك المظاهر. أردّ.

قاعة الفندق تخلو رويداً. التلفزيون مفتوح بشكل دائم على قناة لا أحبها. ترى ما هي آخر أخبارنا؟ انقطعت عن المتابعة الفضائية منذ أسبوعين. ولما كنت، بحكم الظروف، حيواناً مستهلكاً للسياسة، فإنني أشعر الآن، بنقص ما.

لم أجرؤ على الطلب من عامل الفندق تغيير القناة. رغبت نوعاً في مشاهدة "الجزيرة"، غير أني ابتلعت رغبتي. أكيد أنها الآن تُركّز على يوم الجمعة في الحرم، وعدد المصلّين، وإجراءات منعهم من قبل إسرائيل. وهل ثمّة أخبار غيرها؟

المفارقة، أنّ القدس الشرقية لا تصبح عربية الطابع والحركة والحياة طوال السنة، كما تصبح في شهر رمضان.

مئات الآلاف يتدفّقون على الحرم، من القدس ذاتها، ومن الضفة، ومن عرب الداخل. أمّا القطاع، فمحروم من هذه الصلاة، منذ انتفاضة الألفيْن.

تسع سنوات ونيّف، لم يصل غزّاوي إلى الحرم، غير بعض المرضى من أمثالنا. وهؤلاء لا يتجاوزون المئات سنوياً.

كم تبالغ "إسرائيل" في حصارها، وكم ندفع نحن الثمن.

الجمعة الفائتة، بلغ عدد المصلّين ربع مليون تقديراً. وأذكر في سنوات ماضية، أيام كان القطاع مفتوحاً، أنّ العدد وصل في إحدى آخر الجُمع، إلى 450 ألف مُصلٍّ.

والآن، صارت الصلاة في الكعبة، أقرب منالاً للغزّاويين، من الصلاة في القدس.


* شاعر فلسطيني مقيم في برشلونة، والنص حول تجربته في عام 2009

المساهمون