براءة مرسي "الموثقة" من سفك الدماء والتخابر والتزوير... بشهادة من أدانوه

19 يونيو 2019
يحاول النظام المصري الحد من التعاطف مع مرسي(فرانس برس)
+ الخط -

وجه جهاز الاستخبارات العامة المصرية، المُتحكم حالياً في وسائل الإعلام المحلية، والقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية، عقب وفاة الرئيس المعزول محمد مرسي، أثناء محاكمته، ببث ونشر فقرات وتقارير عن ضلوعه مع جماعة الإخوان المسلمين في العديد من جرائم سفك الدماء والتجسس والتخابر ضد مصلحة مصر، إلى حد كتابة اسمه على بعض الشاشات الموالية لنظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، مقترناً بكلمتي "الجاسوس" و"القاتل". ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تم الادعاء أنه صدرت بحق مرسي أحكام بتهم لم يرتكبها ولم توجه له من الأساس، في محاولة للتأثير على الرأي العام والحد من موجة التعاطف مع نبأ وفاته، بعد 6 سنوات من السجن والحرمان من أبسط حقوقه في محاكمة عادلة.

والحقيقة المنافية للصورة التي تحاول أجهزة النظام إشاعتها أن مرسي صدر ضده حكمان نهائيان فقط من محكمة النقض، الأول في القضية المعروفة إعلامياً بالتخابر مع قطر، والثانية في القضية الخاصة بالأحداث الدامية بمحيط قصر الاتحادية الرئاسي، التي وقعت في ديسمبر/كانون الأول 2012. ورغم طابع تصفية الحسابات السياسية الذي يطغى على الحكمين، إلاّ أنهما فشلا في أن ينسبا لمرسي تهمة القتل أو التخابر. ففي القضية الخاصة بالتخابر مع قطر عاقبت المحكمة مرسي بالسجن المؤبد، مُثبتة عليه تهمتين فقط، هما تشكيل جماعة إرهابية بالمخالفة للدستور والقانون (البند التاسع من لائحة الاتهام) بالإضافة إلى اختلاس أوراق حكومية على قدر عالٍ من السرية وتمس الأمن القومي. وأكدت حيثيات المحكمة براءة مرسي ومدير مكتبه أحمد عبد العاطي ومساعده أمين الصيرفي من التخابر مع قطر، بعدما فشلت في إيجاد علاقة واقعية بين مرسي وموظفي مكتبه من جهة، وبين المتهمين بمحاولة بيع الوثائق لقناة "الجزيرة" من جهة أخرى. لكن المحكمة مضت في الطريق المرسوم لها سياسياً، بالربط بين المتهمين جميعاً في اتهام إجرامي واحد، ليس له أي وجود في أوراق القضية، هو تشكيل جماعة إرهابية تابعة لجماعة الإخوان المسلمين.

وجاء هذا الحكم، الذي صدر في سبتمبر/أيلول 2017، داعماً لتحركات الأجهزة المصرية الراغبة في نسج رواية قانونية موثقة، يُمكن من خلالها اتهام حكومة قطر بالضلوع في تمويل العمليات الإرهابية على أراضيها، على الرغم من ضعف الأدلة الواردة في تلك القضية وغياب القرائن على وجود صلة بين الوقائع الفعلية التي حدثت وبين ما تزعم السلطات المصرية أنها عمليات تمويل واسعة النطاق، تمتد بين قطر وتركيا ومصر لخلايا غير مركزية تابعة إلى جماعة "الإخوان"، في 9 محافظات، أبرزها القاهرة والجيزة والإسكندرية. كما لم تقدم المحكمة دليلاً على توافر سوء النية لدى مرسي وعبد العاطي والصيرفي في الحصول على الأوراق محل القضية. فمرسي تحديداً لم يكن يعلم عنها شيئاً، لأن الحصول على الأوراق حدث في فترة كان يمكث خلالها في دار الحرس الجمهوري، وليس في القصر الرئاسي. كما أن الواقعة حدثت في فترة كان مرسي فيها هو الرئيس الواقعي لمصر، وبالتالي فلم يكن هناك استغلال أو تلاعب للحصول على هذه الأوراق.

ومن المثير للتعجب في حكم أول درجة الذي أصدره القاضي محمد شيرين فهمي، الذي توفي مرسي أمامه، وفي حكم النقض المؤيد له، أن الحيثيات اتخذت من حبس مرسي بعد الانقلاب عليه سبباً لعقابه، فادعت أنه "امتنع عن رد الوثائق والمستندات التي حصل عليها من قائد الحرس الجمهوري والاستخبارات العامة والرقابة الإدارية والأمن الوطني، التي تتعلق بالقوات المسلحة وأمن الدولة ومصالحها القومية، واحتفظ بها لنفسه، وامتنع عن ردها لحفظها لدى المختصين في مؤسسة الرئاسة، وأنه كان على علم بأهمية تلك المستندات". ولم يأخذ القضاء بعين الاعتبار حقيقة أن مرسي لم يكن يملك من أمره شيئاً بعد الانقلاب عليه، وأنه لم يُمنح وقتاً حتى للعودة إلى منزله، ولم يعد إلى مكتبه برئاسة الجمهورية في أي من القصور الرسمية، بل تم اقتياده إلى مكان احتجاز غير معلوم، عُرف فيما بعد أنه قاعدة أبوقير البحرية في الإسكندرية.


وهكذا لم تستطع المحكمة إدانة مرسي إلاّ بتهمة سياسية بحتة هي قيادة جماعة إرهابية بالمخالفة للدستور والقانون، إذ أصبح الانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين جريمة بحد ذاته، بغض النظر عن ارتكاب أفعال أخرى كالتظاهر أو التخريب أو القتل، خصوصاً بعدما أصدرت محكمة الأمور المستعجلة حكماً، في خريف العام 2013، باعتبار "الإخوان" جماعة إرهابية، ثم صدور قرارات حكومية لاحقة باعتبارها إرهابية، ثم حل الحزب السياسي لها "الحرية والعدالة" والتحفظ على أموال أعضائها والمتهمين بدعمها وتأييدها.

أما في القضية الأولى التي حوكم فيها مرسي، وهي أحداث الاتحادية، فقد جاء الحكم أيضاً سياسياً مفتقداً إلى الأدلة الموضوعية، إذ تم تأييد حيثيات حُكم أول درجة، التي ذكرت أن مرسي (الذي كان داخل قصر الرئاسة في ذلك الوقت) اشترك مع القياديين الإخوانيين محمد البلتاجي وعصام العريان بالاتفاق والمساعدة في ارتكاب جريمة "التحريض على استعراض القوة وفض الاعتصام والتلويح بالعنف ضد المعتصمين وإرهابهم وترويعهم، وإلحاق الأذى بهم، وفرض السطوة عليهم لإرغامهم على فض التظاهر والاعتصام". ولم تنسب المحكمة إلى مرسي أي فعل يمكن اعتباره جرمياً في الحقيقة، فقد أسندت إلى البلتاجي أنه حشد الأنصار، وإلى العريان وآخرين أنهم وجهوا، عبر وسائل مختلفة، المؤيدين لمرسي للتوجه إلى قصر الاتحادية لفض الاعتصام. بل إن المحكمة، وفي معرض محاولة إدخال مرسي متهماً في هذه القضية، قالت إنه "لا يتوجب على محكمة أول درجة بالضرورة الإفصاح عن مصادر الأدلة التي تُرتب عليها عقوبات ضد المتهمين". كما رفضت المحكمة الدفع بالتحقيق فيما إذا كانت التظاهرات حول الاتحادية سلمية أم غير سلمية، معتبرة أن "تحديد وصف التظاهرات ليس ركناً من أركان الجريمة وليس شرطاً فيها". وزعمت أنها وجدت أنه من المقبول أن "يستقر في وجدان محكمة أول درجة أن المتهمين (وعلى رأسهم مرسي) ارتكبوا جرائم استعراض القوة والعنف والقبض والاحتجاز بغير حق، المقترن بالتعذيبات البدنية"، رافضةً الدفع بالمغالاة في تقدير العقوبة التي ناهزت 20 سنة مشددة على مرسي. واللافت للنظر أن محكمة النقض في حكميها على مرسي أقرت إدانته دون أي دليل مباشر على تورطه. كما أدانته بتهم ليست رئيسية في سياق قراري الاتهام بالقضيتين، الأمر الذي يؤكد اتجاه إرادة النظام، بسلطاته المختلفة، لإبقاء مرسي سجيناً، وتقنين تغييبه في محبسه طوال هذه الفترة بغض النظر عن الأسباب القانونية لذلك.


أما الجريمة الأخرى التي يحاول إعلام بعض الأجهزة نسبها لمرسي وهي "تزوير انتخابات الرئاسة"، التي فاز بها في العام 2012، فالثابت أيضاً أن محكمة جنايات الجيزة في إبريل/نيسان 2018 قضت برفض تحريك هذا الاتهام نهائياً، وأيدت قرار قاضي التحقيق بحفظ التحقيقات في هذه القضية في أغسطس/آب 2017، مشيرة إلى أنه ومع ثبوت أن مرسي، باعتباره موظفاً عاماً كرئيس للجمهورية، ومعه المستشارون أعضاء لجنة الانتخابات الرئاسية ومسؤولو المطابع الأميرية، وهم جميعاً موظفون عموميون، فإنه لا يجوز لمحامي المرشح الرئاسي الأسبق أحمد شفيق الطعن على حفظ التحقيقات بشأنهم.