فقد شهدت منطقة الجميزة في بيروت تظاهرة حاشدة أمام شركة الكهرباء، تحركت لاحقاً إلى ساحتي الشهداء ورياض الصلح. واحتشد المئات أمام منزل رئيس الحكومة الأسبق (وهو وزير مالية أسبق أيضاً)، فؤاد السنيورة، هتفوا بمطالبته بأموال للدولة ضائعة. كما تظاهر آخرون أمام منزل وزير الاتصالات في حكومة تصريف الأعمال، محمد شقير، وأمام منزل وزيرة الطاقة والمياه في الحكومة، ندى بستاني.
وتترافق هذه الفعاليات المنتظمة بإيقاع يومي، وليلي خصوصاً، مع الاحتفاظ بالحراك الظاهر في ساحتي الشهداء ورياض الصلح المتجاورتين في وسط بيروت على إيقاعه، وعلى انتظام ما تشبه الحلقات النقاشية في خيام التشكيلات والتمثيلات الأهلية والمدنية الحاضرة في الساحتين، والشوارع الفرعية بجوارهما. الأمر الذي ينتظم ليلياً ويومياً في ساحة إيليا في صيدا جنوباً، وفي ساحة النور في طرابلس شمالاً. وأوضح ما يخلص إليه المراقب لهذه الأجواء، الساخنة البعيدة عن التوتر، أنها تؤكد فشل رهانات السلطة على عامل الوقت، على تعب اللبنانيين من هذا التأزم الظاهر في المشهد العام في بلدهم، وعلى يأس الشارع والذي تتم محاولات دفعه إلى الاكتفاء بما تحقق من "إجراءات" أعلنتها الحكومة المستقيلة في ورقتها الإصلاحية التي أعلن رئيس الوزراء المنصرف، سعد الحريري، في 21 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وبوعود عامة بشأن محاربة الفساد، أعلن عنها رئيس الجمهورية ميشال عون.
إلى أي مدى يمكن الحديث عن استمرار الانتفاضة اللبنانية في مسارها المتجدد يوما بعد أيام، أسلوباً وفاعليات وإيقاعاً عاماً؟ وهل فشلت السلطة حقاً في رهانها على عامل الوقت في إضعاف وتيرة هذه الانتفاضة التي يغضب شباب لبنانيون ناشطون من تسميتها هذه، ويصرون على تسمية المشهد في بلدهم ثورة؟ وماذا عن الممكن التحقق والمستحيل في هذه الثورة، من قبيل شعار "إسقاط النظام الطائفي" الذي يبدو عصياً، وحلماً بعيداً؟ هذه الأسئلة توجّهت بها "العربي الجديد" إلى فاعلين ناشطين في ميادين الثورة اللبنانية التي يتابع الشارع العربي تفاصيلها، ويناصرها الملايين فيه، محبة لأهلها، وقناعة بكل مطالبها، فضلاً عن إعجاب مؤكد بلبنان، بلداً لا يتوقف عن مفاجأة العرب بالتفاؤل، وإن في ظروف صعبة، وحال عربي بالغ السوء.
تقول المحامية نادين فرغل، إن المؤكد أن رهان السلطة على عامل الوقت أن ينهي زخم حراك الثورة في لبنان فشل، بل العكس هو ما يجري، ومن الدلائل على ذلك أن تلاميذ المدارس انضموا إلى التظاهرات والاحتجاجات، وأن المشاركين في فعاليات متعددة في مختلف مناطق لبنان يتزايدون، من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، فالزّخم متجدد، ويعلو كل يوم، ولا يتباطأ. وترى فرغل أن ما تسميها "الأطراف المتروكة" في البلد تعود إلى الوطن، وللمرة الأولى تصبح منه، من ذلك أن مائتي شخص تظاهروا في منطقة حوش الأمراء في منطقة زحلة لأول مرة. كما أن أهالي جبل محسن والتبانة في طرابلس الذين كانت الأخبار تأتي على أجواء خصومة بينهما تصالحوا في أثناء الثورة، ويشاركون مع بعضهم في فعالياتها. وها هم أهالي طرابلس يعلنون عن موعد لإزالة صور الشخصيات السياسية العامة من كل المدينة، في رفض احتجاجي واسع يؤكد شعار الثورة الجامع "كلّن يعني كلّن"، والمتوقع أن ينتقل هذا الأداء إلى مدن لبنانية أخرى.
وترفض فرغل، الناشطة في لجنة للدفاع عن المتظاهرين، وفي تجمّع للمحامين للبنانيين، الزعم إن الثوار يطالبون بالمستحيل. وتقول إن ما تم إنجازه حتى الآن ليس قليلاً: إسقاط الحكومة، تسعيرة الخليوي الأقل، خفض بعض الضرائب، الموازنة بعجز صفر. وإذا كان مطلب إسقاط النظام الطائفي في لبنان خلافياً، فإن الإجماع تام ومتحقق ومؤكد على مطلب استقلال السلطة القضائية، وعلى عدة مطالب معيشية وحياتية، وعلى تشكيل حكومة تكنوقراط موثوقة، تنجز انتخابات لبنانية مبكرة، من شأنها إعادة تركيب السلطة، ذلك أن المتظاهرين في ساحات لبنان وميادينه وشوارعه أكبر عدداً ممن انتخبوا أعضاء مجلس النواب الحالي.
من جهته، يقول الناشط في مجموعة "حدن منا"، مارك ضو (40 عاما)، إن مسمى الثورة هو الأدق والأصح على الجاري في لبنان، لأنه يتضمن أيضاً ثورة على قيم اجتماعية قائمة، وعلى مفهوم القوى السياسية في لبنان. ويؤكد أن زخم هذه الثورة سيزداد، ببساطة لأن الدافع الأساسي لها اقتصادي، ومن يتظاهرون اليوم حاملين وروداً سيتظاهرون غداً حاملين حجارة، بسبب يأسهم وجوعهم. والمرحلة القريبة المدى ليست وردية أبداً، فهناك مخاطر اقتصادية جدية، والحديث عن الانهيار دقيق، واستشعار هذا الحال صحيح. ويوضح أن الذهاب إلى الفوضى والانهيار بدأ نهاية العام 2016، عندما قام مصرف لبنان بهندسة مالية أدت إلى أرباح 5.5 مليارات دولار لجذب العملة الصعبة إلى داخل الأسواق اللبنانية. وفي جولة ثانية لذلك في العام 2017، تم اتخاذ قرارات حملت مؤشرات الانهيار الاقتصادي المقبل. كما أن هناك انهياراً سياسياً كبيراً، بسبب عدم تقدير الأحزاب الحاكمة الموقف، ورغبتها بالإمساك بالسلطة، وعدم تراجعها عن سياستها، وعدم تقديمها حلولاً سياسية، بغرض تأمين استقرار سياسي يضمن مصالحها، وتسلطها على المجال العام، ومن أجل حماية الفساد، غير أن تظاهرات السلطة فرملت قدرة السلطة نحو جر البلاد إلى الانهيار العام، بعد الضغوط على الأحزاب وعلى الفاسدين.
ولا يرى ضو أن شعار إسقاط النظام الطائفي غير ممكن، ويلح على أن من يطرحه من الثائرين جادّون به، ولكن المؤسسات السياسية والحزبية غير متجانسة مع هذا الطرح الجديد الذي من شأنه إعادة انتظام علاقة المواطن اللبناني مع الدولة بشكل يحرر المواطن من التبعية الطائفية. ويوضح أن ذلك يتطلب سنّ قانون أحوال شخصية مدني، يساوي بين كل المواطنين، وهناك مطالبة بتحقيق هذا القانون. وإلى هذا الأمر، تقول المادة 95 من الدستور اللبناني بإجراء انتخابات نيابية من خارج القيد الطائفي. وتحقيق هذين الأمرين وارد على المديين المتوسط والبعيد.
من جهته، يقول الناشط في الثورة اللبنانية في طرابلس من "تحالف وطني"، يحيى مولود، إن الثورة أنجزت في وقت قصير ما عجزت عنه المعارضات اللبنانية في عقود، فقد وحدت الخطاب الشعبي في مقابل سلطة الفساد، ووحدت الساحات وتخطت الخطاب الطائفي، وأسقطت حكومة التسوية الرئاسية. ولذلك ما تحقق ليس قليلاً، ولكن الانتصار الفعلي هو في الوصول إلى حكومة مصغرة، من اختصاصيين، مستقلة عن الأحزاب السياسية الفاسدة، وإجراء انتخابات نيابية مبكرة لإعادة تركيب السلطة، وهذا طرح مباشر وعملي. أما بشأن مطلب إسقاط النظام الطائفي، فالمادة 95 من الدستور اللبناني تقول بإلغاء الطائفية، ومن شأن العمل بها إنهاء "زواج المتعة" الذي أقامه اتفاق الطائف بين الأفرقاء السياسيين على أساس تقاسم المصالح والمحاصصة.
أما أن تنتظر السلطة أن ينجح سيف الوقت في وقف ثورة الشارع اللبناني، فيرى يحيى مولود أن أمرها هذا يدل على مكابرتها، فالذي يحدث هو انضمام قطاعات متنوعة إلى فعاليات الثورة، ومنهم طلاب الجامعات وتلاميذ المدارس، عدا عن قطاعات أخرى طالما ظلت مبعدة عن المشهد السياسي. والمؤكد، كما يقول مولود، إن الثورة سجال تصاعدي، وتطاول كل شرائح المجتمع ولبنان أفضل بعد "17 تشرين" مما كان قبله.