اليهود الفرنسيون لا يستعجلون استبدال باريس بنتانيا

16 يناير 2015
دعوات نتنياهو لم تجد صدى حقيقياً (ايليا يفيموفيتش/Getty)
+ الخط -

لم يفوِت رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، منذ الجمعة الماضي، دقيقة واحدة من وقته من دون أن يدعو يهود فرنسا وباقي يهود العالم إلى الهجرة إلى "أرض إسرائيل" باعتبارها وطنهم القومي والضمان الوحيد لهم، وإن كان يحق لهم العيش أينما شاؤوا بأمان ومساواة، مثلما قال في كلمته في الكنيس اليهودي الأكبر في باريس يوم الأحد الماضي، وعاد وكرر ذلك من على كل منبر متوفر له.

على الرغم من ذلك، يبدو أن دعوات نتنياهو وباقي المنظمات الصهيونية والحركات الإسرائيلية المختلفة التي تجنّدت هي الأخرى لتوظيف وتحقيق أكبر حد ممكن من المكاسب على حساب دماء ضحايا المتجر اليهودي لم تجد لها صدى حقيقياً عند يهود فرنسا.

والواقع أن محاولات إسرائيل والحركة الصهيونية الرقص مجدداً على دماء ضحايا يهود، سواء استهدفوا لكونهم يهوداً أو لتصادفهم في موقع الأحداث ليست جديدة، بل رافقت إسرائيل التي شجعت بعض هذه الأحداث والاعتداءات على مرّ السنوات سعياً للاستفادة منها.

لكن هذه المحاولات التي نجحت في السنوات الأولى بعد النكبة، ولا سيما في اقتلاع وجلب مئات آلاف يهود الدول العربية وقسم من يهود أوروبا في سنوات الخمسين والستينات من القرن الماضي وفي حالة يهود الاتحاد السوفيتي، لم تعد على ما يبدو تجدي نفعاً، ولا هي بكافية لإقناع يهود العالم بالهجرة إلى "أرض إسرائيل"، ولا سيما في حالات الجاليات التي تعيش حياة مرفهة في مواطنها الأصلية.

وكانت حالة يهود الاتحاد السوفيتي هي الأكثر نجاحاً بفعل الظروف الخاصة لليهود ومعهم مئات آلاف السوفييت الذين ادعوا اليهودية، طلباً للفرار من جحيم الاتحاد السوفيتي ووصلوا إلى "إسرائيل" كمحطة في طريقهم إلى الولايات المتحدة، ناهيك عن عودة عشرات الآلاف منهم إلى أوكرانيا وباقي دول الاتحاد السوفيتي سابقاً بعد فشل استيعابهم في إسرائيل، وبفعل العنصرية التي قوبلوا بها باعتبارهم ليسوا يهودا حقيقيين أو اتهام نسائهم بالبغاء واتهامهم بأنهم مافيا روسية.

استغلال إسرائيلي

وفي السياق الفرنسي تحديداً، فإن رقصة الزار والبكاء على دماء قتلى المتجر الباريسي، فاقت في إسرائيل كل الحدود، بدءاً من محاولات إسرائيل الترويج إلى وجود حركة هجرة نشطة من فرنسا بسبب معاداة السامية. لكن اتضح، وفقاً للمعطيات الرسمية في إسرائيل، أن مضاعفة عدد المهاجرين من فرنسا لم تعني في سياق الأعداد الصحيحة أكثر من وصول 7 آلاف مهاجر فرنسي من أصل نحو 600 ألف يهودي يعيشون في فرنسا. لكن هذه المعطيات، مع إثارة مشاعر الترهيب من معاداة السامية، كانت أشبه بتصديق المقولة العامة بأن "الكذاب خرب بيت الطماع". فقد انتشرت في إسرائيل توقعات لوزارة الهجرة والاستيعاب بزيادة عدد المهاجرين من فرنسا إلى إسرائيل إلى عشرة آلاف شخص. ثم اتضح أن وزير البناء والإسكان، أوري أريئيل، دعا إلى استغلال الظروف وإعداد خطط لتسكين المهاجرين الفرنسيين من أصول يهودية في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة.

وعلى الرغم من أن إسرائيل الرسمية تحاول إغراء يهود فرنسا بالمجيء إليها والهجرة إلى "أرض إسرائيل" وطنهم التاريخي، إلا أن التركيبة الاجتماعية الاقتصادية ليهود فرنسا، تشكل عملياً حاجزاً أولياً بفعل ميزان الربح والخسارة يحول من دون المسارعة إلى الهجرة وقبول دعوات نتنياهو، ولا سيما أن هذه الدعوات تلقى تحفظاً شيه تلقائي من قبل يهود فرنسا، كما باقي الجاليات اليهودية الأوروبية، التي تعتبر أن مثل هذه الدعوات تزيد من سوء وحرج مكانتهم في بلدانهم الأصلية ولا تعود بالضرورة بالفائدة عليهم.

وشكل انضمام اليهود المصلين في الكنيس اليهودي في باريس، أثناء وجود نتنياهو إلى مرددي النشيد الوطني الفرنسي، دليلاً آخر على عدم مسارعة هؤلاء إلى الاقتناع بالدعوات الإسرائيلية. وجاء رد الحاخام الأكبر ليهود فرنسا، حاييم كروسييه، بمثابة صفعة وجهها لنتنياهو عندما طالب الدولة الفرنسية بتوفير الحماية والأمن ليهود فرنسا باعتبارهم مواطنيها، مؤكداً في الوقت نفسه، كما نقلت الصحف الإسرائيلية "أننا لا نسارع إلى مغادرة فرنسا، وعلى الحكومة أن تضمن أمن وسلامة اليهود لأن فرنسا من دون اليهود لن تكون فرنسا".

ويشكل هذا التصريح في واقع الحال، الاتجاه السائد لليهود الفرنسيين، ولا سيما أنّ غالبيتهم من أبناء الطبقة الوسطى. فهؤلاء يعتبرون أن هويتهم الفرنسية تطغى على أي هوية أخرى، من دون أن ينتقص ذلك من يهوديتهم، وهم لا يرون سبباً لمغادرة فرنسا ولا حتى بفعل مظاهر معاداة السامية.

وفي السياق، أقرّ يوعاز هندل، في مقالة له الاثنين في "يديعوت أحرونوت"، وهو الذي كان مستشارا لنتنياهو في السابق، أن فرص يهود فرنسا بتجنب الاعتداءات عليهم أكبر عند وجودهم في فرنسا مما هي في إسرائيل بفعل الأوضاع الأمنية واحتمالات وقوع عمليات للمقاومة الفلسطينية في مدن وبلدات إسرائيل المختلفة.

تجربة المهاجرين

وفقدان إسرائيل لجاذبيتها ليهود في مختلف أنحاء العالم تشمل أيضاً يهود فرنسا. فإذا كان مهاجرو الدول العربية إلى إسرائيل بفعل الإرهاب الذي مارسته الوكالة اليهودية من عمليات تفجير لمواقع سكن اليهود ومراكز العبادة، كما كان في حالة يهود العراق بعد اعتداءات الفرهود المشهورة، أو يهود المغرب والجزائر، لا يملكون بديلاً أو خياراً آخر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، فإن أوضاع اليهود الفرنسيين في إسرائيل ومحاولة حشرهم جميعاً في مدينة نتانيا الساحلية لا تشجع يهود فرنسا إلى الهجرة. وبات يهود الجاليات المختلفة ومن ضمنهم الفرنسية، على اتصال دائم بالجاليات التي هاجرت إلى فلسطين، ومطلعون على سوء الأوضاع المعيشية والأمنية، من جهة، وعدم جاهزية الدولة لاستيعابهم من جهة أخرى. وهي عوامل لها وزن كبير وثقل مهم في عدم سقوطهم في براثن الإغراءات التي يحاول نتنياهو تقديمها لهم.

وقد كشف تقرير موسع نشر في "ذي ماركر" الاثنين الماضي، أن حالة اليهود المادية والاجتماعية في أوروبا، وفي فرنسا تحديداً لا تشجعهم على القدوم إلى إسرائيل والهجرة إليها حتى لو امتلك بعضهم شققاً في نتانيا. فنتانيا باتت مدينة إجرام أكثر مما هي مدينة بنكهة فرنسية خلافاً لمحاولات تصويرها إسرائيلياً كذلك، وتل أبيب ليست مدينة الأضواء.