النشيد الوطني وترسيخ الهوية الوطنية
والنشيد الوطني يعتبر سمفونية موسيقية تجمع بين الماضي بتضحياته والمستقبل بآماله، وهو إيديولوجية قصة صمود تجسد الارتباط بالوطن واستلهام القيم التي زرعها الأجداد والآباء ليبقى العطاء للوطن بغير حدود، وهو نهج ثابت في التربية الوطنية تتحول تدريجياً إلى سلوك وعمل بعيداً عن كونها مجرد كلمات أو شعارات، والهاتيكفاه أو الأمل خير مثال لذلك، فهو نشيد الشعب للشعب، حين تستمع لهذا النشيد للوهلة الأولى، تجد مقدمة موسيقية هادئة يصاحبها صوت عميق كأنه آت من مئات السنين، تنساب كلماته كأنما يرددها العشرات خلف الصوت الرئيسي، وترانيم الصوت تعيد في ذاكرته معالم استيطان وتهويد صهيوني، تدرك أنه كذلك، فيما يراه المحتل معالم لهويته وتاريخه.
يقول النشيد الوطني المقتبس من قصيدة صهيونية قديمة: "ما دامت في القلب تكمن، نفس يهودية تتوق، وللأمام نحو الشرق، عين تنظر إلى صهيون، أملنا لم يضع بعد، أمل عمره ألفا سنة، أن نكون أمّة حرّة في أرضنا، أرض صهيون وأورشليم".
والهاتيكفاه كتبه شاعر يهودي من شرق أوروبا يدعى نفتالي إمبير عام 1886 ليصبح لاحقاً مبدأ الحركة الصهيونية في مخططها لاحتلال الأراضي الفلسطينية والعربية، بعد ذلك بـ33 عاماً وفي عام 2004 اعتمد كنشيد وطني لدولة الاحتلال، وأدرج كرمز من رموزها الوطنية.
موسيقى وكلمات نشيد الهاتيكفاه حملت طابع المهاجر اليهودي الذي ترك بلده للقدوم والاستيطان في قلب فلسطين، فالكلمات تعود لأغنية شعبية مولدافية تتكون من تسع أبيات، اختير منها بيتين، وتم تحوير بيت "أن نعود إلى بلاد آبائنا.. المدينة التي نزل بها داوود" إلى "أن نكون أمة حرة في أرضنا.. أرض صهيون وأورشليم".
وأورشليم هو المعنى العبري الصريح للقدس، أما اللحن الموسيقي فهو إيطالي، واللهجة عبرية اشكنازية تعبر عن مهاجري أوروبا الشرقية، وتختلف عن العبرية المتداولة.
الهاتيكفاه الإسرائيلي وبكل أسى يتضمن إشارات عدة تعلن بكل جحود حقاً زائفاً للصهيونية في فلسطين، أمل لم ينته منذ ما قبل السبي البابلي، فتجد في الهاتيكفاه عبارة "لم نفقد أملنا بعد" وهي ترتبط مع نبوءة العظام اليابسة للنبي حزقيال في الديانة اليهودية: "يا ابن آدم هذه العظام هي كل بيت إسرائيل ها هم يقولون يبست عظامنا وفقدنا أملنا، قد انقطعت ذريتنا. لذلك تنبأ وقُل لهم هكذا قال السيد الرب هأنذا افتح قبوركم وأرفعكم من قبوركم يا شعبي وآتي بكم إلى أرض إسرائيل" وتقول هذه النبوءة بشكل واضح وصريح إنّ الله سيمنح شعب إسرائيل حياة ثانية رغم فقدان الأمل والشعور باليأس.
ومن هنا يثبت النشيد الوطني مرةً أخرى أنه ليس مجرد مقوم وطني فقط، فحين عُزف النشيد في المهرجان الرياضي بالإمارات وذرفت الوزيرة الصهيونية الدموع، كان ذلك بالنسبة لها ولشعبها أملاً جديداً وأطماعاً أخرى، بدأت ملامح نجاحها في الظهور.
فلسطينياً، كان "موطني" هو النشيد الذي يحكي عن أحلام الفلسطينيين ووطنهم الجميل، موطني كان نشيداً من الشعب وللشعب أيضاً، منذ 1934 ظل معبراً عن الحالة الفلسطينية المرهفة، المناضلة والمقاتلة بشراسة، المحبة للحياة والجمال، بكلمات الشاعر إبراهيم طوقان، ولحن الموسيقار اللبناني محمد فليفل خرج "موطني للوجود" حتى تحت الانتداب البريطاني كان شعاراً موحداً للثوار ورديفاً للكوفية والبندقية، ولم يخرج عن هذا النسق سوى منظمة التحرير الفلسطينية، أو بالأحرى حركة فتح حين اعتمدت نشيد "فدائي" نشيداً رسمياً لها، واستبدلت به نشيد العاصفة، وأصبح مستخدما رسمياً منذ عام 1972، وفي إطار السلطة الوطنية الفلسطينية وبعد اتفاق أوسلو، وفي عام 2005 تم إقرار فدائي رسمياً كنشيد وطني، بعدما اشترطت سلطات الاحتلال عدم استخدام نشيد موطني والتخلي عنه، على الرغم من أن غالبية الشعب الفلسطيني داخل فلسطين وخارجها لا تزال تعتمد "قلبيا" نشيد موطني.
إن المقارنة بين النشيدين كفيلة بأن تضعنا أمام الأسباب التي جعلت نشيد فدائي "مقبولاً إسرائيلياً" عوضاً عن موطني، ففي نشيد فدائي ولمن يدقق في كلماته كان أنصف له وللوطن لو كان نشيداً حزبياً تعبوياً لرفع همم الشبيبة الفتحاوية مثلا، وهي ليست بعيدة عن ذلك على أي حال، "فدائي"، النشيد الذي حملته حركة فتح منها إلى منظمة التحرير ومن الأخيرة إلى السلطة محاولة فرض فئويتها على فكرة النشيد الوطني الفلسطيني.
يفتقد فدائي للجمال، ولزخم الكلمات وعذوبة المعنى، تبدو لوحة كلماته وموسيقاه أشبه بمحجر جاف قاحل تتناثر الحصى والحجارة على جنباته، تختفي فلسطين الخضراء، الأم، الحنونة من بين حروفه، وتصبح اللحظة ولا شيء سوى اللحظة محدداً له، لا مستقبل ناصح ولا غد مشرق، ولا شباب مجد، ولا همة ولا عزائم.
وإذا كان لا بد من الاختصار، فيمكن القول إن نشيد موطني مُشبع بروح "العودة" حتى قبل أن يحل الشتات وهو نشيد معني بفكرة الوطن، الوطن الأم، والوطن الكبير، والوطن العربي الواسع القوي الواثق، وناطق باسم شعب تخطى اسمه وكيانه ووحد ما بين الماضي والحاضر وأحلام المستقبل. نشيد كامل لا ينحصر في حمل السلاح كما في نشيد "فدائي" الذي جعل من الفلسطينيين دون غيرهم "مجموعة مقاتلين" تناضل لخلاصها الذاتي.
فنشيد موطني بألحانه وكلماته نجح في أن يكون خير سفير عابر للأزمان والأوطان العربية ليجسد وحدة الشعوب العربية والانتماء الخفي للرمزية الوطنية العربية، واستطاع خلق هوية لذلك العربي الحالم بالحرية، وفي أن يكون عاملاً في بناء وتشكيل هويته الوطنية، والتي تمثلت لتكون الهوية الدفاعية عن القضية الفلسطينية أساساً؛ مرسخةً الحدود مع دولة الاحتلال على أساس "نحن" (كعرب) و"وهم" (الصهاينة).
ومن هنا ربما يجدر بالسلطة الفلسطينية حتى إعادة النظر في فدائي، كلمةً ومغنى، لم تعد فدائي تعبر عن الحالة الفلسطينية الرسمية، كما لم يعد موطني يعبر عن القيادة، ما زال موطني معبراً عن الشعب، فيما خذلت قيادته كلاً من موطني وفدائي، تركت منظمة التحرير سلاحها وحملت بديلاً من غصن زيتون تلوح به لأسراب وجحافل الأعداء لدخول البلدات والمدن لاعتقال المقاومين واستهدافهم، لم تعد القيادة مصرة على حمل السلاح أو خوض الكفاح "وإصرار شعبي لخوض الكفاح"، ولم تعد تهتم بالحياة فدائياً أو وطنياً، يكفي الحياة من أجل لقمة العيش ولو بذل، كما يقول نشيد فدائي "سأحيا فدائي وأمضي فدائي وأقضي فدائي.. إلى أن تعود"..
موطني وفدائي.. دليلٌ آخر على أن الحالة الفلسطينية تفقد مقومات وطنيتها ووجودها، وأن تبنيها لرموزها لا ينبع من شعبها ولا رغبتها ولا يعبر عن بوصلتها ولا أهدافها، وهذا مجرد إشارة بسيطة إلى تلك الهاوية التي نمضي فيها دون أن ندرك.
ولكن سيبقى سؤال عفوي يتردد في صدى الأحلام لعله يوقظ بعض اللاهثين وراء السراب، لماذا تضغط إسرائيل على السلطة الفلسطينية لتغيير النشيد الوطني واستخدام فدائي بديلاً عنه، ولم تطالب السلطة بالمثل مع النشيد الوطني الإسرائيلي على الرغم من أنه مليء بالشعارات الدينية البغيضة لدولة تدّعي أنها علمانية ومتحضرة وديمقراطية؟