حين تنطق الدراما رسائل لا تجرؤ عليها الحكومات

08 ابريل 2020
+ الخط -
هذه الأيام تزداد وتيرة الحرب الباردة ما بين الصين والولايات المتحدة الأميركية اشتعالاً، وتبدو الحرب القديمة الجديدة مستنقعاً لا أفق للخروج منه، بل إن أذرعه تتمدد لتلمس الجوانب الدبلوماسية والسياسية والأكاديمية مروراً ببراءات الاختراع والتنافس التكنولوجي، وصولاً إلى المجالات الثقافية والهوياتية والمجتمعية الخاصة بكل محور، وجميعها تنعكس بشكلٍ واضح وصريحٍ عبر رسائل السينما والأفلام، والعروض الثقافية والفنية، بينما تظهر بكثيرٍ من التلميح في خطابات السياسيين وتصريحاتهم.

تاريخياً، نجحت هوليوود من خلال الغزو الناعم لأفلامها، وقدرتها على الانتشار والتصدير عالمياً لسنوات طويلة، أن تبرر السياسة الأميركية والأوروبية في مواجهة الصين، وأن تصورهم كمجموعات من البرابرة المغفلين الذين يستحقون ما يجري لهم، كما صورت الصيني على أنه شرير بطبعه وحقود وجشع وضد الحضارة والمدنية، بل استطاعت الأفلام الهوليودية أن تكون الجبهة المتقدمة في مهاجمة أعداء الولايات المتحدة والسخرية من الصين كمنافس لها.

في المقابل، وبعدما بدأ التنين الصيني في استعادة أمجاده، كان مجال دراسة السينما الغربية والأميركية تحديداً جزءاً من رد الفعل الصيني تجاه الآخر، ومن خلاله أدركت الصين أن الأفلام الدعائية المبهرة، التي تعتمد استنهاض المشاعر، يمكن أن تكون سلاحًا أكثر فعالية من الحرب الحقيقية، كونها تخاطب اللاوعي في العقول وترسخ كثيراً من الرسائل والمفاهيم الخفية، عبر توظيف عناصر الصورة والحركة والصوت.

الصين وفي سبيل إعادة بعث صورتها الحقيقية، سعت إلى تقديم ثقافتها إلى العالم بصورة جديدة من خلال توظيف الدراما الناعمة ورواية القصص الملحمية والتي تتميز ببصمة عميقة من الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية التاريخية الصينية، لترد على الرواية الأميركية والتي كانت مهيمنة على الساحة العالمية لفترة طويلة، حيث انطلقت تصدر للعالم مسلسلات وأفلاماً تعكس رواية أخرى من زاوية فكرية صينية، والتي استقطبت المعجبين ممن يعشقون الفن الصيني حول العالم..


تشير إحصائيات السينما لعام 2019، أن الأفلام الصينية حققت إيرادات وصلت لـ 9 مليارات دولار العام الماضي، وبذلك أضحت الصين ثاني سوق للأفلام في العالم، واقتربت من الولايات المتحدة التي بلغت إيراداتها 12 مليار دولار.

وخلال السنوات الأخيرة، استطاعت السينما الصينية أن تثبت نفسها بمواجهة هوليوود، إما عبر ممثلين أو مخرجين صينيين يحملون الأفكار والمبادئ الصينية، حيث تشير وكالة الأنباء الصينية إلى أن صناع الأفلام الصينيين عمقوا تعاملهم مع أفضل مدارس صناعة السينما الأميركية لتعلم "الخلطة السرية" لهوليوود، وهو ما أثمر لاحقاً بارتفاع نسبة مشاهدة الأفلام الصينية في أميركا الشمالية بنسبة 7% عام 2019، بينما ارتقت السينما الصينية مقارنةً بالسينما الغربية المستوردة في شباك التذاكر المحلي بتفوق 7 أفلام صينية من أصل 10 عُرضت في قاعات السينما.

من بين الأفلام الجديرة بالذكر، كان فيلم "Ip Man" في جزئه الرابع والأخير، ممثلاً لقصة حقيقية لمدرب رياضة الكونغ فو الفقير الذي لطالما ركز في أدائه القتالي على عرض قيم وعادات وتقاليد المجتمع الصيني وكفاحه من أجل حياة أفضل.

الفيلم الذي يستند إلى حياة وينغ تشون ومن إخراج ويلسون ييب "Wilson Yip" الذي أخرج الأجزاء الثلاثة الماضية أيضاً، ومن كتابة تاي لي شان" Tai-lee Chan" ، وإنتاج ريموند ونج "Raymond Wong" وبطولة دوني ين" Donnie Yen"، بلغت ميزانيته 60 مليون دولار، مقابل إيرادات وصلت لـ 228 مليون دولار.

وفي سرد أحداث الفيلم بدأت القصة في عام 1964، بعد وفاة زوجة وينغ تشون، واكتشافه أنه مصاب بسرطان الحلق، وفي خضم علاقة متوترة تجمعه بابنه، يتلقى وينغ دعوة من تلميذه بروس لي للمشاركة في افتتاح مدرسة لتعليم الفنون القتالية في سان فرانسيسكو، فيقرر السفر الى هناك، لتلبية دعوة تلميذه بروس لي الذي قرر افتتاح مدرسة للكونغ فو في سياتل، والذي اتخذها فرصة للبحث عن مدرسة لابنه الذي يعاني من مشاكل في التعامل مع زملائه في المدارس الصينية.

قرار افتتاح مدرسة بروس لي أغضب مجتمع فنون الدفاع عن النفس المحلي في سان فرانسيسكو، والذي سببه السماح لعدد من الأميركيين بتعلم فنون الكونغ فو وهو العلم الذي كانوا يعتبرونه فناً سرياً للصينيين في مواجهة العنصرية والتمييز تجاه ثقافتهم ومجتمعهم في أميركا.

تتصاعد الأحداث ويدخل المدرب فور وصوله لأميركا في صراع بين أقطاب المجتمع الصيني وبين المجتمع الغربي الأميركي الذي يمارس الإضطهاد ضد سكان الحي الصيني، وهنا يحاول وينغ التعامل مع هذه المواقف بحنكة وبما ينسجم مع القيم والعادات الصينية.

وفي ذروة الأحداث يضطر المدرب الى خوض قتال مع ضابطٍ في مشاة البحرية الأميركية والذي كان يقود حملة للتنمر ضد الثقافة الصينية وبعد جولة قتال عنيفة يهزم المدرب وينغ تشون رقيب المارينز.

وفي نهاية الفيلم تظهر لقطة يكتشف فيها المدرب وينغ أن أميركا ليست مكاناً أفضل لحياة ابنه مقارنة بالصين، ويقرر عدم الانتقال للعيش فيها، وفي نفس الوقت ومع انتشار السرطان في جسمه يقرر البدء بتصوير دروس فنون القتال عبر الفيديو ليستفيد منها ابنه بعد وفاته، وتظهر خاتمة الفيلم أن قوات المارينز قد أدرجت رسمياً فنون الكونغ فو الصينية في جدول التدريب البدني لها عام 2001.

الفيلم الذي ضم الكثير من المشاهد الدرامية والحركية لم يخلُ من بث عدد من الرسائل الداخلية للمجتمع الصيني، والخارجية، وكان من أبرزها:
أولاً: أظهر وينغ تشون خلال حواره مع أقطاب المجتمع الصيني في أميركا أهمية عدم الانغلاق وضرورة إطلاع العالم على الثقافة الصينية، ترسيخاً لأسس التشاور والتشارك وتعزيز التعاون والتبادل الثقافي والإنساني.

ثانياً: أطلق الفيلم نداء للصينيين حول العالم لأهمية الوحدة وتلبية الواجب وتفعيل المسؤولية الفردية، مشدداً على واجب كل صيني أن يخدم بلده وثقافته أينما كان، وأن يحارب من أجل كرامة المجتمع.

ثالثاً: وجه رسالة لضرورة عدم الانكسار أمام الظلم وعدم الاحترام والضغوط التي يتعرض لها المجتمع الصيني، وأن أهم خطوة لمحاربة هذا الظلم هي التلاحم ومزيد من التفاهم والتسامح والتماسك الداخلي.

رابعاً: في سيناريو الفيلم أوضح المخرج أن الصيني يشعر بالغضب من نظيره الأميركي بسبب عنصريته وخطاب الكراهية الذي يعتمده ضد الصين، والذي يظهر عدم الجدية في التوصل إلى أي اتفاق يدعم سبل الحياة الكريمة، وهو ما أضر فعلياً بالعلاقات بين البلدين.

خامساً: أطلق الفيلم رسالة بعنوان "كفى"، حيث يظهر المخرج في رسالة عامة أن سياسة الصين لكيفية الخروج من هذه الحرب كانت تعتمد على التحمل ومزيد من الصبر وضبط النفس في سبيل مواجهة الضغوط الأميركية..

مضيفًا أن السياسة الأميركية كانت تنطلق من مبدأ: سنهددهم، فيرضخوا ويستسلموا، ثم نكون سعداء. ولكن في النهاية، وبسبب سياسة الأميركي اكتشف الصينيون ضرورة التوحد الصيني خلف فكرة المواجهة، واكتشفوا أن سياسة ضبط النفس جعلتهم لقمة سائغة، ونموذجاً ضعيفاً أمام الأميركيين.

ونلحظ في سيناريو الفيلم غياب أي شخص أميركي يتحدث عن البدائل لاستيعاب وتفهم العقلية والثقافة الصينية المغايرة، وعلى النقيض ظهر الصينيون في تجاذب فكري بين من يؤيد التصعيد لانتزاع الحقوق وبين من يريد الحفاظ على الوضع القائم خوفاً من تبعات التصعيد على مصالحهم.

وفي الختام يمكن القول إن الرسائل التي تضمنها الفيلم تعبر عن جوهر الفهم الصيني السياسي في التعامل مع الضغوط والنظرة الأميركية والغربية للمجتمع الصيني الشرقي الآسيوي، وإنه في خاتمته يتواءم مع الوضع الحالي للتنين الصيني الذي لم يعد دولة هامشية في فلك هذا الكون، إنما قوة يُحسب لها ألف حساب، وهذه الحقيقة تستوجب من أميركا وبقية الدول الغربية أن تضعها في حسبانها، أثناء تعاملها مع الصين في كافة المجالات، وأن تبحث عن سبل الشراكة والتعاون معها بدلاً من محاولة استفزازها، أو التقليل من شأنها، أو حتى دفعها لمعركةٍ المنتصر فيها خاسرٌ لا محالة.