الانتخابات الفلسطينية ما بين شهوة السلطة والوطن..
بعد أكثر من عقدٍ من الزمن على آخر انتخابات تشريعية ورئاسية، توافقت الفصائل الفلسطينية على إجراء انتخابات جديدة، ووقعت ميثاق شرفٍ مطلع 2021، أكدت من خلاله على التزامها بأحكام القانون العام وبالنزاهة والشفافية، وبصونها الحريات واحترام نتائج الانتخابات.
ردود الأفعال الفلسطينية على هذه الخطوة ظهرت بشكلٍ جلي على مواقع التواصل الاجتماعي، إحدى الساحات الأخيرة التي تحظى بهامشٍ من الحرية تتيح التعقيب والتفاعل مع ما يجري، ورغم أنها ساحة من الحرية، إلا أنها محاطة بأشواك مارك زوكربيرغ ومراقبةٍ لصيقة جداً، سواء من قبل أجهزة حكومية أو أمنية صهيونية أو حزبية، أو حتى أطر اجتماعية ذاتية النظم.
بشكلٍ عام، تباينت ردود الأفعال بين مؤيدٍ مرحب، ومتشكك متردد، ومهاجمٍ رافض، ولكل تيارٍ من هؤلاء حججه ودوافعه القوية، ولديه من القدرة على المناقشة والحجة ما يدفع الطرف الآخر لانتحال الصمت.
لكن حالة التجاذبات بلغت أشدها في الآونة الأخيرة، وبدأت تكشف عن أدوارٍ قوية لمواقع التواصل الاجتماعي، وقدرةٍ على تشكيل الرأي العام، أو إعادة ضبطه وتوحيده في مساراتٍ محددة، وفقاً لثلاثة متغيرات ألمت بالساحة الفلسطينية خلال الأسابيع القليلة الماضية وكان لها الأثر الأكبر في ذلك.
أول هذه المتغيرات كانت جملة الوفيات التي طاولت قيادات وشخصيات من الصف الأول في حركة حماس، لهم حضورٌ اجتماعي كثيف وطاغٍ، ففي تاريخهم كانت البدايات والتأسيس، وفي حياتهم التضحيات الاستثنائية، وفي موتهم تأكيدٌ أنهم جزءٌ من شعبٍ يخضع لمتغيرين؛ الاحتلال والفساد، وإن كان للأول نصيبٌ كبير في إنهاك أجسادهم ما بين اعتقالٍ واستنزافٍ معنويٍ ومادي، فللفساد المستشري والذي طفح كيله مع جائحة كورونا دورٌ متعاظم في حرمانهم من الحصول على الرعاية الصحية الكافية، أو على ما حصل عليه "عظام الرقبة" من لقاحات.
الحركة بشكلٍ برغماتي قدمت للفلسطينيين سياستها ورؤيتها وميثاقها على شكل قائمةٍ انتخابية، عنوانها "القدس موعدنا"
شملت قائمة الوفيات رموزاً ومؤسسين من شمال الضفة إلى جنوبها، منهم الدكتور أكرم الخروبي، والمربي نبيل البشتاوي، والمؤرخ عدنان أبو تبانة، والشيخ عمر البرغوثي، وإن كان كلٌ منهم قد مثلت وفاته موجة إحياءٍ خضراء على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن الذروة كانت في جنازة الشيخ عمر البرغوثي "أبو عاصف"، التي مثلت بعثاً ثورياً حقيقياً لحركة "حماس" في الضفة الغربية ولأنصارها في كل مكان، وذلك لأسبابٍ عدة؛ أبرزها أنها أثبتت أن "حماس" لم تمت أو توأد ومهما غشاها من سيل فإنها عادت من جديد، وأن ماضيها مرتبطٌ بحاضرها، وعهد العياش ومحيي الدين وجيلهما هو عهد اليوم وجيله، متى ما تحرر من قيود الملاحقة الأمنية الفلسطينية.
كما أثبتت الجنازة أن القاعدة الشعبية للحركة قادرة على الاصطفاف والحشد بسرعة وبنظام وبميكانيزم عالٍ وانضباطٍ قل مثيله في الحالة الفلسطينية، بل إن لديها القدرة على التحدي والتمرد والوقوف في وجه الاحتلال وغيره دون خوف، على أن يكون الحراك بحد ذاته جمعياً جماعياً وليس فردياً فقط.
هذه الإشارات عكسها الجو التفاعلي على مواقع التواصل الاجتماعي، الذي وجد في الحشد الوداعي رسالةً مفادها أن التيار الأخضر قادر على تحقيق نتائج طيبة في الانتخابات الفلسطينية القادمة، وأنه ما زال يحظى بتعاطف وقبول من الشارع الفلسطيني، ناهيك عن أن المد التفاعلي الافتراضي جاوز أعداد المشاركين في الجنازة، وتردد مثل الصدى في الشارع الفلسطيني يزداد عمقاً واتساعاً بازدياد المنشورات التي تتحدث عنه.
المتغير الثاني هو قائمة" حماس"، والتي سجلها عددٌ من أعضائها في الضفة الغربية وقطاع غزة في الأيام الأخيرة المفتوحة للتسجيل الانتخابي، وإن لم تصاحَب خطوات التسجيل بمظاهر احتفالية صاخبة، فعلى مواقع التواصل الاجتماعي تم الاحتفاء بالخطوة بشكلٍ كبير، فالحركة بشكلٍ برغماتي قدمت للفلسطينيين سياستها ورؤيتها وميثاقها على شكل قائمةٍ انتخابية، عنوانها "القدس موعدنا"، وفيها عودة لمربع المقاومة الأول وتأكيد عليه، وأن المشاركة الانتخابية لحماس هذه المرة تهدف لإعطاء أنصارها قليلاً من المساحات اجتماعياً ومؤسساتياً، ناهيك عن أن القائمة تصدّرها أسرى مؤبدات وعمداء من داخل السجون، في رمزية إدراكية بأن الأسير يجب أن يبقى تحت الضوء وفي ظل الاهتمام الشعبي والإعلامي دائماً.
هذه الفسيفسائية جذبت الجمهور الفلسطيني للمرة الثانية، واستطاع أن تحظى بتأييد شعار "القدس موعدنا" بشكلٍ أكبر من شعار "التغيير والإصلاح"، الذي لم يتح لحماس أن تطبقه أو تبدأ به أصلاً، وهو ما حول كثيراً من الأقلام الرافضة للانتخابات إلى أخرى مرحبة بها، ومشككة في عزم السلطة على عقدها، خاصةً في ظل الحضور الأخضر الذي ازداد ثقلاً على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى الأرض.
ناهيك عن أن الإدارة الإعلامية لمشاركة الحركة في الانتخابات تميزت بالتوافقية العالية مع مختلف الفصائل، وأظهرت أن السعي نحو المشاركة السياسية هو بهدف حلحلة العقد الاجتماعية والسياسية والنفسية والشعبية، التي أحاطت بحماس وجمهورها في الضفة بشكلٍ أساسي، وكادت أن تفصلها عن حاضنتها الشعبية.
أما المتغير الأخير فهو فتح داخلياً، شقاقها وانقساماتها، عواصفها ورياحها، وأصوات بنادق المعترضين فيها على القوائم التي تركتهم في مواقع متأخرة، وهزت ثقتهم في البقاء في مناصبهم، اليوم تنشق فتح لأكثر من قائمةٍ وقائمة، محمد دحلان لديه قائمة، ورغم فصله من حركة فتح فأتباعه فتحاويو العظم، والقدوة لديه قائمة، ويدعمه مروان البرغوثي، وفتحاويون من طولكرم ونابلس وجنين والخليل معترضون على موقعهم في القوائم يقومون بتسجيل قوائم خاصة بهم لضمان وصولهم إلى المجلس التشريعي، مع التحفظ على أهداف ومآلات هذه القوائم وتحالفاتها بعد الانتخابات.
هذا التخبط وهذا الانقسام هما ناقوس خطر على حركة فتح ـ حتى وإن ثبت أن هذه الإنقسامات مخطط لهاـ ، فهما إشارة بالغة الدلالة للفروق الجوهرية بين قائمة يتصدرها أسرى لم تلمس جباههم وسادة لينة منذ عقود، في مقابل قوائم يتصدرها متنفذون أو ساعون للنفوذ والسلطة، الفرق بين قائمة يتصدرها الهياكل العظيمة وأصحاب بطاقات الـVIP، وقائمة أخرى تضم آباءً لشهداء وأسرى، الفرق بين قائمة قدمت التضحيات والشهداء والأسرى وقائمة هي وجه سياسي لفرق الموت والاغتيالات.
علينا ألا ننسى هنا أن فتح بكينونتها التاريخية لم تستطع اليوم استثمار الرصيد الثوري المتراكم للأسير مروان البرغوثي، بحيث يكون نداً قوياً مقابل قائمة حركة حماس وأسراها، وهذه سقطة ستدفع فتح ثمنها غالياً.
في الختام، الخطوات التي تمضي بها حماس نحو الانتخابات تبدو وئيدة واثقة وثابتة، وما لم يجد الجانب الآخر فرصاً أكبر له في الفوز، فعلى هذه الانتخابات السلام، وفي الواقع فإن ما حققته حماس في الأيام والأسابيع القليلة الماضية لهو بالنسبة لها كافٍ ولجمهورها أكثر من ذلك بكثير.