المتآمرون على أنفسهم

22 أكتوبر 2018
+ الخط -
"مؤامرة على السعودية".. "قطر وتركيا تتآمران للنيل من المملكة".. "إيران وتركيا وقطر محور تآمري على السعودية".. "قضية خاشقجي مفتعلة ومؤامرة لاستهداف المملكة".. "خاشقجي أُخفي بأيدي أطراف متآمرة على الرياض"..
هذه عيّنة من التعليقات والعناوين في بعض وسائل الإعلام العربية، خصوصاً في السعودية ومصر، تعليقاً على قضية اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي. ظهرت تلك العناوين الزاعقة منذ اليوم الأول لاختفاء الرجل، واستمرت حتى أول من أمس فقط، حين اعترفت الرياض رسمياً بمقتل الرجل داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، بأيدي سعوديين.
ويا له من موقف مهين ومخزٍ وضع هؤلاء أنفسهم فيه، بالكذب والافتراء لمجرد الدفاع عن السلطة، ولو باختلاق مؤامرة وهمية. ولا يعني ذلك أن كل المؤامرات وهم، أو أن سياسات الدول تلتزم الأخلاق والمُثُل العليا، أو أن تحرّكاتها ملائكية. لكن الدول والشعوب المتقدمة كلها تعترف بوجود المؤامرات، وبالطبع تمارسها، فالمؤامرة جزء من السياسة بطبيعتها.
لكن ما لا يدركه بعض المزايدين من العرب والمتحذلقين أن لا ميزة تتحقق من التلكك بالمؤامرة. وأن التاريخ لا يقف مع المتلحفين بها في مواجهة الحقائق وصيرورة الكون، بل يقف أحياناً مع من يعتبرون مجازاً "متآمرين"، بينما يقف دائماً مع من يجيدون تحصين أنفسهم وشعوبهم ودولهم من المؤامرات المزعومة.
لم تسلم أيٌّ من أحداث التاريخ منذ بدء الخليقة من الخضوع إلى نظرية "المؤامرة". حتى أن نزول آدم من السماء إلى الأرض كان مؤامرة من الشيطان على الإنسان الذي اختصّه الله بالخلافة في الأرض دوناً عن بقية خلقه.
لذا، تعد نظرية المؤامرة أشهر التفسيرات التواكلية التي عرفها الإنسان، واستمرأها ضعاف العقل والقدرات، الذين يجيدون الربط تعسّفياً بين الشواهد واستنطاق القرائن بما يرسّخ هاجس المؤامرة وفوبيا الاستهداف. لكن الغريب أن ثمّة علاقة عكسية بين مستوى تحضّر الشعوب (وتقدّمها) واللجوء إلى نظرية المؤامرة.
لم تظهر نظرية المؤامرة لدى شعوب الحضارات القديمة، الصينية والفرعونية والفينيقية والرومانية والفارسية والإسلامية، ولم تظهر أيضاً في الحضارات الحديثة في أوروبا واليابان، فالشعوب المتحضرة لا تلجأ إلى نظرية المؤامرة، ليس لأنها تنكر وجود المؤامرة، أو تنفي مساعي التفوق والغلبة، بل والسيطرة والنفوذ وامتلاك السيطرة، ولكن لأنها تؤمن بالعمل والتقدّم الكفيل بإفشال أي مؤامرة. وتملك قناعة كاملة بأن من حق كل فرد وكل شعب أن يسعى إلى تحقيق مصالحه، ومسؤولية ما يترتب على ذلك إنما تقع بالأساس على من يخطئ أو يفتقد القدرة على مواجهة التحدّيات، أو ما يسميه الفاشلون "المؤامرة". لذلك لا تظهر نظرية المؤامرة ولا تزدهر إلا عند الشعوب المتخلفة. ولا يروّجها إلا إعلام مُضلل، ولا يتعلل بها سوى من يبحثون عن ذريعةٍ لتبرير السقوط والإخفاق.
ومن المثير للحيرة، وربما الأسى، ذلك التناقض الذي يوقع هؤلاء أنفسهم فيه، فهم يوزّعون الاتهامات بالمؤامرة يميناً ويساراً من دون حساب أو رويّة. إلى حد ادّعاء أن العالم بأسره "يتآمر علينا". ولنون الجماعة هنا أكثر من مستوى، فهي تارة تعني المسلمين، وتارة ثانية تنصرف إلى العرب، وفي ثالثة تضيق لتعني المصريين أو السعوديين أو أبناء كل شعب على حدة، فدائما هناك مؤامرة، إما من العالم علينا نحن العرب، أو من مسيحيي هذا العالم على المسلمين، أو من قوى الاستعمار والاستكبار والامبريالية والإرهاب، وكل أنواع قوى الشر العالمية وأشكالها، علينا نحن المصريين أو السوريين أو السعوديين أو أو،..
ويصل التناقض إلى قمته، بادعاء مشاركة بعض هؤلاء العرب أو المسلمين أنفسهم في التآمر ضد بعض آخر، عرب ومسلمين أيضاً. أي أن العرب والمسلمين، إجمالا، هدف للمؤامرة وشركاء فيها ضد بعضهم في الوقت نفسه.
حتى بعد أن ثبت مقتل جمال خاشقجي بأيدٍ سعودية داخل القنصلية السعودية، ظهرت أصوات تقول إنها مؤامرة أميركية تركية لاستدراج السعودية، ووقعت فيها. ما يعني أننا، نحن العرب، اخترقنا سقف الاشتراك في التعرّض للمؤامرة والمشاركة فيها بالتبادل، إلى حد التآمر ليس على بعض، وإنما على أنفسنا!
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.