عقم التفكير وفقر التدبير

05 اغسطس 2024

(محمد عبلة)

+ الخط -

 

تعاني النُخْبَة الحاكمة في مصر حالةَ تكلّسٍ فكريّ وعقم إبداعيّ مُزمِن. وعلى الرغم من أنّ الحكومات في العهود السابقة لم تكن خلّاقةً ولا مبدعةً في أساليب إدارتها الدولة، فلم تكن سياساتها وأساليبها بهذا الضمور في التخطيط أو البدائية في التنفيذ، كما هو حاصل حالياً.
تحرّياً للصدق والحقّ، لا تقتصر حالة الجفاف الفكريّ والإبداعيّ على النُخَبة الحاكمة وحدها، بل هناك نوع من التصحّر الحضاري يشمل المجتمع المصري كلّه، وما النُخَب في أيّ مجال أو قطاع إلّا إفراز طبيعي لذلك المجتمع، وتجسيد دقيق لمكوّناته وخصائصه. وليس أدلّ على ذلك من انحسار الإبداع وندرة المتميّزين في الفنّ والرياضة والأدب والبحوث العلمية والتكنولوجيا، وغير ذلك من أوجه الحياة. لكنّ أهمية الفكر الخلّاق، والقدرة على إيجاد حلولٍ وأساليبَ مبتكرةٍ، تزداد كثيراً حين يتعلّق الأمر بأعضاء النُخَبة الحاكمة، وخصوصاً العاملين منهم في المؤسّسات الرسمية للدولة وأجهزة السلطة.
في مصر الراهنة، تباشر السلطة سياساتٍ غيرَ مدروسةٍ، وتتباهى بتجنّب دراسات الجدوى لتوفير الوقت. وتتّخذ قراراتٍ مُتسرِّعةً ثم تعود لتعديلها أو إلغائها، بعد التجربة وتَلقِّي النصائح من أهل الاختصاص وردّات الفعل السالبة في المجال العام. وهي لا تكتفي بإدارة الدولة وفق مبدأ "التجربة والخطأ"، بل تتبع هذه التجارب والقرارات بتبريرات سطحية، وتفسيرات ساذجة. على سبيل المثال، شرعت السلطة المصرية في بناء مدينة جديدة شرق القاهرة، لتكون "عاصمةً إداريةً" لمصر، من دون دراسةٍ لضرورتها أو الحاجة إلى تفريغ العاصمة القاهرة من الكيانات والمقارّ الإدارية والتداعيات المترتّبة من ذلك. وبعد أربعة أعوام من بدء تأسيسها، وانتقال معظم الوزارات والمؤسّسات الحكومية إليها، لم تُقدّم الحكومةُ المصريةُ أيَّ دليلٍ على إفادتها دولاب العمل الحكومي أو جدواها عموماً. وتكتفي بتكرار أنّ تلك المدينة الجديدة ستُحدِثُ "نقلةً نوعيةً" في أداء الحكومة، من دون تحديد طبيعة تلك النقلة وفي أيّ اتجاه، أوما هي فوائدها للمواطن أو للعاملين في الحكومة أو للوزراء أو لأيّ طرف في دورة العمل الحكومي (!)
وفي ظلّ الاهتمام المبالغ فيه بمشروعات الطرق والنقل، تنفّذ الحكومة المصرية مشروعَ قطار مونوريل في مساحة كبيرة، تبدأ من أقصى غرب العاصمة وصولاً إلى العاصمة الإدارية الجديدة في الضاحية الشرقية من القاهرة. وعلى النهج نفسه، لم تقدّم الحكومة أيَّ تفسيراتٍ أو مبرراتٍ مقنعة لإقامة مشروع بتكلفة مبدئية 4.5 مليارات دولار (في عام 2021)، ويقام في مساحاتٍ صحراويةٍ واسعةٍ لا حاجة فيها إلى "مونوريل".
في الأسبوع الماضي، انبرى رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي للردّ على تندّر المواطنين على اختيار أيّام الإجازات الرسمية تحديداً لرفع أسعار الوقود والكهرباء، وغيرها من الخدمات. وكان ردّه أنّ السبب هو تجنّب المفاجأة، وحدوث بلبلة بين المواطنين إذا رُفِعت الأسعار في أيّام العمل (!) أي ليكون أمام المواطنين وأصحاب وسائل النقل فسحةٌ من الوقت لترتيب أوضاعهم، وترسيم الزيادات في رسوم النقل والمواصلات. وهو اعتراف صريح بغياب الحكومة، وتخلّيها عن دورها الرقابي، وترك الشعب يدبّر أموره ويدير حياته اليومية بنفسه، وتجسيد حقيقي لفقر التفكير والعجز عن تقديم تبرير مُقنع ومنطقي لسياسات وقرارات هي أصلاً غير مفهومة ولا منطقية، والأخطر أنّها تُؤكّد العجزَ عن ضبط الأسعار وعدم متابعة الأسواق.
وكما تتعدّد أمثلة وحالات عقم التفكير في النُخَبة الحاكمة في مصر الراهنة، تتوالى أيضاً الانتقادات والسخرية الشعبية من العقلية الحكومية المُنعزلة عن الشارع. ورغم أنّ هذه الحكومة من نسيج ذلك الشعب، إلّا أنّ الفجوة بينهما واسعة في حدود التفكير وآفاقه. والمشكلة الحقيقية أنّ أولئك المسؤولين، ومَنْ يُحيطون بهم، لا يدركون أنّ عقولهم هم أكثر انغلاقاً وغباءً ممّا يظنّون في مواطنيهم.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.