اللباس العربي في حُلى المعاجم

11 نوفمبر 2019
(منى حاطوم، باستلهام التطريز الفلسطيني، جورج لوهسي)
+ الخط -

قد يتساءل البعض كيف راودت المستشرقَ الهولندي رينهارت دوزي (1820-1883) فكرةُ إنجاز معجمٍ اصطلاحي يختصّ بأسماء اللباس، طيَّ الحضارة العربية الإسلامية القديمة والمعاصرة. والجواب أنّ المعهد الملكي، بهولندا، نظَّم مُسابقة علمية حول أفضل بحثٍ يتناول عادات العرب وتقاليدهم من خلال النصوص العربية. فكان أن اقترح هذا العمل الذي حاز بفضله على الجائزة الأولى، بإجماع اللجنة سنة 1843. وبعد عاميْن، أصدَرَه مطبوعاً بعنوان: "الـمُعجم الـمُفَصَّل لأسماء اللباس عندَ العرب". ويَقع في 446 صفحة، تُغطّي أكثر من أربعمائة مدخلٍ معجمي ترتبط كلها بمفردات الملابس.

وبعيداً عن سياق المسابقة، وما نَظُنُّها سوى ذريعةٍ، قد يكون دوزي أنجزَ هذا المبحث الدقيق بدافع الحاجة الفيلولوجية لتحقيق النصوص الكلاسيكية ومعرفة معاني ما يدور فيها من أسماء الـملابس وإدراك ما تحيل عليه ألفاظُها بدقة وشمولية، أو لعله قرّر إغناء مسيرته المعرفية بصناعة معجمٍ مختصٍّ، قبل أن ينجز "تَكملته للمعاجم العربية العامة" التي رأت النور سنة 1881. إذ فضّل الخوض في غمار هذا الحقل المصطلحي واستكشاف معاني وحداته، في سبيل تذليل صعوبات جمَّة تعترض المشتغلين على النصوص الأدبية والتاريخية. ذلك أنَّ جلّ قطع اللباس وعاداته تَطوّرت بسرعة، ولاسيما خلال القرن التاسع عشر، بفعل الاحتكاك بالحضارة الغربية، حتى صارت غالبية تلك الأسماء في حُكم المهمل والخارج من الاستعمال، مثل: حِقو، قلنسوة، قندس، جهركس، وغيرها من الكلمات التي كان بعضها مُقتَرضاً من اللغات الأجنبية، كالفارسيّة واللاتينية والبربرية والتركية، مما يعقّد أكثر عملَ اللغويين العرب، ممن لا يتقن هذه اللغات.

قدَّم دوزي لعمَله هذا قائلاً، باللغة اللاتينية: "هذا ديوانُ أسماء الملابس التي حَملها العربُ من الجنسيْن، على مَرّ العصور، وفي مختلف الأمصار، وتلك التي يَحملونها في أيامنا هذه. وسنتناول بالشرح، بعد عَرض عامٍ، كلَّ قطعة على حدة، ونورد أسماءها حسب ترتيب الهجاء العربي. وسنتطرّق إلى جذورها وأشكالها وموادها وطرائق استعمالها"، ثم مضى في استعراض كل لفظة وتحقيق كل ما يتصل بها من معلومات وفوائد.

هذا، ولم يستق دوزي الكلمات المحيلة على اللباس من كتب الرحلة والأدب والفقه والقواميس العربية فحسب، فهذه مُدوّنتُه المرجعيّة الرئيسة، بل ومن المصادر الاستشراقية الأوروبية وأدب الرحّالة الأجانب الذين زاروا ولايات السلطنة العثمانية، واحتكوا بأهاليها ووصفوا عاداتهم وتقاليدهم ومنها اللباس. ولذلك، كان يورد إشاراتٍ من تلك المراجع المعاصرة له، ليقدم أكبر قدر من المعلومات حول القِطع الارتدائيّة المسجلة في تقييداتهم.

وأيا يكن من أمر دوافع دوزي (الصورة) والتحديات المنهجية التي واجهها، فقد صاغ هذا المستشرق الصبور أحدَ أول المعاجم التي تتبع المنهج التاريخي في تعاقب دلالات المفردات وتطوّرها. إذ يقوم منهجه على ذكر المفردة الدالة على اسم من أسماء اللباس ثم شَرحها، ثم إيراد ما يتعلق بها من شواهد في كتب اللغة والأدب والتاريخ والفقه، إلى درجة أنه أرسى تاريخاً مُفصّلاً لاستعمال كل قطعة من قطع الملابس التي كان العرب المسلمون يستخدمونها في حِلّهم وتِرحالهم، داخلَ بيوتهم وفي الفضاء العام. وقد ركز بشكلٍ كبير على الحقبة الأندلسية، ربما لما شهدته مُدن الأندلس، طيلة قرون ثمانية، من تأنُّقٍ في الارتداء وتوسّع في توشية الملبس وتنويعه، زيادةً على اختلافه بين الرجال والنساء وبين الكهول والأطفال، وحسب انتمائهم الطبقي والاجتماعي.

ومن جهة ثانية، يقوم منهجه على ذكر الإحالات التي وردت فيها تلك الأسماء حتى يتمكن الباحثون، اعتماداً على تلك الشواهد، من رؤية الكلمة داخل سياقاتٍ دلالية متعددة، ليؤكد أو ينفي ما ذهب إليه في فهم معانيها. ولذلك، رَصَّع الباحث الهولندي عمله هذا بالكثير من الهوامش والإحالات اللغوية التي صيغت في أبحاث معاصريه من المستشرقين والمثقفين، رغم حَذره في قبول بعضها، بل وتفنيده لها.

كما يعتمد هذا الكتاب، في صفحاتٍ منه، على ترجمة شواهد مطولة ومفصَّلة إلى اللسان الفرنسي، يَقتبسها من كُتب الرحلة والتاريخ والأدب، ويوردها للبرهنة على ما طرأ على الكلمة من تَحولاتٍ في الاستعمال، بحسب الوضع الثقافي. ولا يكتفي بالترجمة، بل يعلق على ما يَرد في الشواهد من كلمات غريبة ونادرة، ضمن رؤية تفسيرية وحتى بيداغوجية، يساعد بها معاصريه على تجاوز صعوبات النصوص العربية الكلاسيكية.

ومما يؤسف له أنّ هذا المعجم، الذي صدر قبل قرنٍ ونصفٍ، لم يُتَرجَم، حسب عِلمنا، إلى الضاد وبقيَ أسير المكتبات المختصّة، كما لم يَشع استخدامُه في أوساط طلبة الآداب والحضارات العربية القديمة، وحتى أساتيذها. وقد ينهض بعضُ باحثينا من الشباب بإنجاز مهمة الترجمة هذه، للاستفادة منه في دمج مصطلحاته الأربعمائة ضمن "معجم الدوحة التاريخي". إذ يمكن لهذا الأخير أن يُدرج هذه المداخل جميعها بعد التثبت منها وتحقيقها والتوسّع فيها. وإنَّما العِلمُ بالتراكم. أو على الأقل، استغلالها قاعدةً أولى ينطلق منها ثم ينقحها ويَتبناها، بما أنها صيغت وفق قَواعد المعجمية التطورية، وهو ما يربِح هيئة "معجم الدوحة" وقتاً ثميناً.

كما لم يَعرف هذا المكنز أيَّةَ تكملة له، ولم يُعنَ الباحثون المعاصرون بإصدار مُعجم إضافي يَستوعب أسماء الملابس التي ظهرت مُذاك أو يضيفون إليها، باستثناء "المعجم العربي لأسماء الملابس في ضوء المعاجم والنصوص الموثقة من الجاهلية حتى العصر الحديث"، الذي أصدره رَجب عبد الجواد إبراهيم، سنة 2002.

ولم تُستغلَّ المواد التي يتضمنها، من منظور إناسي أو سوسيولوجي، إذ تحمل هذه المصطلحات خصوصيةً ثقافيّة لافتة، فهي تحيل على عناصر لصيقةٍ بالثقافات المحلية التي نشطت داخل المجتمعات العربية-الإسلامية، في تنوّعها الجغرافي والتاريخي وغِناها الإثنولوجي. فالملابس المستخدَمَة في شمال الأطلسي تختلف ضرورةً عن تلك التي يستخدمها سكان السباسب وبَدو الصحارى في جزيرة العرب. وما يسود في أسواق المدن الكبرى، التي وصفها المؤرخ الفرنسي أندريه ريمون، في كتابه، "كبريات المدن العربية في العهد العثماني" (1999)، يُباين ما يَشيع في القرى والأرياف.

ولا شك أن الظاهرة الارتدائية من أدق المداخل في فهم الثقافة العربية، فاللباس هو أحد مظاهر الثقافة ومكوّن رئيس للهوية، وفي أنسجته تَرتسم حدود السلطة، وتتجلى رهانات الصراع والرقابة والتحكم في إنتاج القيم، ولاسيما اليوم حيث تعيش مجتمعاتنا العربية عَولمة اللباس وتعميم النموذج الموحد الجنس والأعمار وحتى الطبقات، مما أسفر عن ضربٍ من الإفقار لهذا الحقل المعجمي الذي يكاد ينحصر في "الدجنز"، الذي بات يطغى، تقريباً، في أرجاء "قرية العالم". لذلك، يظل معجم اللباس لدوزي كنزًا من كنوز التراث، يتأكد إحياؤه من أجل الوقوف على الدلالات الثقافية التي باطنت الدلالات المعجمية. فليست هذه الأخيرة، في نسيج الثقافة، سوى حاملٍ لرؤية العرب للجسد والسُّلطة وما بينها من علامات التفاعل والتدافع.

دلالات
المساهمون