اللاجئ الفلسطيني مستبعد عمداً من الحماية القانونية (1-2)

14 مايو 2014

رقم القرار للاجئين الفلسطينيين بستاد بيروت (مايو 2010 أ.ف.ب)

+ الخط -
مخيفٌ ما تفعله السلطات اللبنانية إزاء الفلسطينيين من حملة الوثيقة السورية، بقراراتها أخيراً منع شركات الطيران من نقل الفلسطينيين، وتمعن هذه السلطات في تمييزها المزمن إزاء الفلسطينيين، وتخطو خطوة إضافية في عنصريتها التي تستعصي على التصديق. وهي لا تجافي كل الأعراف والقوانين الدولية فقط، بل وكذلك الدستور اللبناني نفسه، بخصوص حماية الكائن الإنساني وغوثه. وإلا كيف نفهم أنهم يمنعون الفلسطيني، من دون غيره من الهاربين من الجحيم السوري، من "نعيم" بلاد الأرز؟ وأنهم يتركونهم يواجهون مصيراً يعرفون أنه مرعب.
تتضح الدلالات المأسوية لهذا الإجحاف اللبناني، حين نعرف أن اللاجئين الفلسطينيين هم خارج نظام الحماية القانونية المعمول به من الأمم المتحدة. ويتمثل ذلك في (اتفاقية اللاجئين) التي صارت نافذة قبل 60 عاماً، وهذه استبعدت اللاجئين الفلسطينيين صراحة من النظام الذي وضعته، وما زال مطبقاً بخصوص اللاجئين وعديمي الجنسية. كيف حدث ذلك، وما هو معناه؟

××××××

تعامل النظام الدولي القائم، وما زال يتعامل، مع اللاجئين الفلسطينيين بخصوصيةٍ تتطلب، بحد ذاتها، التحليل والمساءلة. فبخلاف أية مجموعة، أو فئة أخرى، من المهجّرين قسرياً عن ديارهم في العالم، خُصَّ اللاجئون الفلسطينيون بوضعٍ فريدٍ في النظام الدولي الذي ينظم علاقة الدول باللاجئين والمهجرين قسرياً، وغيرهم من الفئات عديمي الجنسية. ولا يخفى أن لهذا التخصيص التمييزي نتائج خطيرة، تتمحور حول بعدين من أبعاد قضايا اللجوء. الأول هو بعد الحماية التي تكفلها الصكوك والمعايير الدولية الرئيسة التي تنظم علاقة الدول باللاجئين، وهي اتفاقية جنيف المتعلقة بوضع اللاجئين (1951)، وبروتوكولها الإضافي (1967) المعروف باسم بروتوكول اللاجئين، والنظام الأساسي لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. والبعد الثاني يتكامل مع الأول، باعتباره الوجه الآخر لموضوع الحماية، ويتعلق بالمسؤولية القانونية والشرعية إزاء حقوق اللاجئين الفلسطينيين، أولاً، وإزاء آليات تطبيق قرارات الشرعية الدولية الصادرة حول قضيتهم، ثانياً. ويتكشف تفحّص هذه القضية عن جملة مفارقات ذات أبعاد تراجيدية تكشف، أولاً، عن تناقضات النظام الدولي القائم وآلياته.

في أصل الاستبعاد: الاستثناء

أشيرُ إلى مفارقة تتصل باتفاقية اللاجئين. تنص الاتفاقية في موضعين، على الأقل، على عدم جواز التمييز بين البشر. مع ذلك، يستثني مؤلفو هذه المعاهدة الدولية اللاجئين الفلسطينيين منها، ويستبعدونهم من ولاية المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التي أقرّوا تشكيلها.

حدّدت اتفاقية اللاجئين (المادة 1 الفقرة أ- 2) "اللاجئ" بأنه
"كل شخص يوجد، بنتيجة أحداث وقعت قبل 1 يناير 1951، وبسبب خوف له ما يبرره من التعرض للاضطهاد، بسبب عرقه أو دينه أو جنسيته أو انتمائه إلى فئة اجتماعية معينة، أو آرائه السياسية، خارج بلد جنسيته، ولا يستطيع، أو لا يريد بسبب ذلك الخوف، أن يستظل بحماية ذلك البلد، أو كل شخص لا يملك جنسية، ويوجد خارج بلد إقامته المعتادة السابق، بنتيجة مثل تلك الأحداث، ولا يستطيع، أو لا يريد بسبب ذلك الخوف، أن يعود إلى ذلك البلد".

ولأن هذا التعريف ينطبق تمام الانطباق على اللاجئين الفلسطينيين، سارع مؤلفو الاتفاقية في الفقرة (د) من المادة الأولى نفسها إلى استبعادهم، وإخراجهم منها، وتنص على أنه:
"لا تنطبق هذه الاتفاقية على الأشخاص الذين يتمتعون بحمايةٍ، أو مساعدةٍ، من هيئاتٍ، أو وكالاتٍ، تابعة للأمم المتحدة، غير مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين".

لا تذكر فقرة الاستبعاد هذه اللاجئين الفلسطينيين على وجه التحديد، غير أن علاقة الترابط التي تقيمها بوضوح بين (معاهدة اللاجئين) وثلاثة صكوك دولية أخرى تجعل من اللاجئين الفلسطينيين المجموعة الوحيدة التي ينطبق عليها البعد الاستبعادي، أي الإجرائي فيها. وهذه الصكوك هي: النظام الأساسي لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ولجنة الأمم المتحدة للتوفيق حول فلسطين (لجنة التوفيق)، ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (أونروا). ومن المفارقات التي لا تخلو من دلالة أنه إبان المفاوضات حول الاتفاقية الخاصة بوضع الأشخاص عديمي الجنسية (1954)، كانت الولايات المتحدة الأميركية (وهي أكبر ممول لأونروا) أول من أشار إلى اللاجئين الفلسطينيين، بصريح العبارة، بغرض استبعادهم من الاتفاقية الأخيرة. وقد بين المندوب الأميركي الأسباب: "لا تعتبر الولايات المتحدة الأميركية أنه يجب إدراج مجموعات معينة في إطار الاتفاقية، مثل 600 ألف من اللاجئين العرب، الذين وضعت الأمم المتحدة ترتيبات خاصة بهم، أو لاجئي كشمير واللاجئين الهنود".

يتكرَّس الاستبعاد في الفقرة 7 من النظام الأساسي لمفوضية الأمم المتحدة للاجئين، ونصّت على أن ولاية المفوض السّامي لا تشمل أيَّ شخص "يواصل التمتّع بحماية أو مساعدة هيئات أو وكالات أخرى تابعة للأمم المتحدة"؛ ولا يخفى أن "هيئات أو وكالات أخرى" تشير، هنا، مباشرة إلى كل من لجنة التوفيق و"أونروا".

للوهلة الأولى، يبدو استبعاد اللاجئين الفلسطينيين منطقياً، وينسجم مع سياق الأمور. فلهؤلاء وكالتان دوليتان، تُعنيان بهم. أولاهما، وهي لجنة التوفيق، أنشأتها الجمعية العامة للأمم المتحدة، بموجب قرارها 194 (الدورة 3) الصادر في 11 ديسمبر/ كانون أول 1948. وشمل تفويضها بنوداً تتعلق بتوفير الحماية الدولية، وبتسهيل التوصل إلى حل دائم وشامل لقضية اللاجئين والمهجّرين الفلسطينيين، بموجب الفقرة 11 من القرار نفسه، واستعادة الممتلكات والتعويض المستند إلى الخيار الفردي. وثانيتهما شكلتها الجمعية العامة بموجب قرارها 302 (الدورة 4) الصادر في 8 ديسمبر/ كانون أول 1949، هي "أونروا".

لكن، تشكيل "أونروا" جاء، في الحقيقة، نتيجة مباشرة من نتائج عجز (لجنة التوفيق) عن تحقيق أيّ تقدم في المهمة التي أسندتها الجمعية العامة لها. فلم ترفض إسرائيل عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وممتلكاتهم فقط، بل كانت تهجر أعداداً متزايدة من الفلسطينيين، وتُسارِعُ، في الوقت نفسه، إلى هدم بيوتهم وتدمير قراهم، وجرف حقولهم وتسويتها، بغرض خلق وقائع جديدة على الأرض، تجعل عودتهم إليها مستحيلة.

كانت النتيجة المباشرة لانهيار (لجنة التوفيق) انهياراً فعلياً للحماية الدولية المفترضة قانونياً لصالح هؤلاء الفلسطينيين المهجرين قسرياً من ديارهم. وإذ لا يعني هذا الانهيار عجز الجمعية العامة للأمم المتحدة عن تطبيق قرارها، فقط، فلأنه يعني، في الواقع، تقاعس القوى العظمى عن فرض حل سياسيٍّ وقانونيٍّ ما، أولاً، وأن هذه القوى العظمى أتاحت بهذا التقاعس لـ"حل" الأمر الواقع الذي تحبِّذه إسرائيل أن يستمر حتى اليوم، ثانياً. 
ارتبط إنشاء "أونروا" وما زال يرتبط وغياب الإرادة السياسية لوضع نهايةٍ لما صار يعرف منذئذ بـ"أزمة الشرق الأوسط"؛ وتربط باميلا آن سميث هذا الإنشاء بما أسمته استراتيجية (إخضاع اللاجئين). أي بالجهود التي لم تتوقف، منذئذ، لكي يذعن الفلسطينيون للأمر الواقع الذي يعاكس تطلعاتهم، ويجافي مبادئ العدل والقانون الدولي الإنساني، وقرارات الأمم المتحدة. بل ويمكن القول، من غير عناء، إن القصة تبدو كما لو كانت سلسلة تراجعات تتكشف عن توفر الإرادة السياسية الدولية القاضية بعدم تنفيذ قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالحقوق الفلسطينية وفي مقدمها حقوق اللاجئين. أليست الولايات المتحدة هي نفسها الممول الأكبر لنظام الأمم المتحدة، وفي الوقت نفسه، معطله الأكبر بخصوص فلسطين؟ 

****

لم تُظهر مجازر صبرا وشاتيلا في صيف العام 1982 حجم الفجوة الناجمة عن غياب الحماية الدولية للاجئين الفلسطينيين فقط، بل أظهرت، قبل ذلك، أن هذه الفجوة أتاحت للهمجية أن تفصح عن نفسها في وضح النهار. ومع أن الهول كان يمكن أن يكون مناسبة صالحةً لمراجعة هذا الاستبعاد المجحف؛ غير أن صرخات الاستنكار والغضب، أو مناظر الجثث المتكدسة في أزقة المخيم وفناءات البيوت، لم تتمكن من إحداث تغيير جوهري في نظام الحماية القائم. أكثر من ذلك، لم تؤد تدخلات المنظمات العاملة في الحقوق الإنسانية حتى إلى إيقاف التدهور المتسارع في أوضاع اللاجئين الفلسطينيين، والانتهاكات الخطيرة، التي صاروا يكابدون منها. فإلى أن إسرائيل فاقمت من قمعها وجرائمها، منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي، فإن أوضاع الفلسطينيين عرفت انتهاكاتٍ جماعية فاحشة في بلدان عربية، كانت تعتبر بلداناً آمنة، مثل بلدان الخليج إبان حرب الخليج الثانية وبعدها، وليبيا بعد اتفاقيات أوسلو، والعراق بعد الاحتلال الأميركي البريطاني، وفي سورية اليوم. أما في لبنان، فتبدو الأمور كما لو كانت عصية على التصديق.
باختصار، يُقدر بعضهم أن هناك اليوم مئات آلاف الفلسطينيين محرومين من أبسط الحقوق الإنسانية، ولا يجدون بلداً يقبل بهم كلاجئين. وتتعامل، اليوم، دول الجوار مع اللاجئين الفلسطينيين النازحين من سورية بفظاظة، وبتم منعهم من العبور، وإرغامهم على العودة من حيث نزحوا، ويحتجزون ويرحَّلون.

إلى ذلك، ينبغي الاعتراف بتعذر فصل حقوق اللاجئين الفلسطينيين، من حيث هم لاجئون، عن واقع حقوق الإنسان في البلاد العربية. ولا يخفى أن انتهاكات الحقوق الأساسية للاجئ الفلسطيني تجد أساسها الفعلي في الطابع الاستبدادي للنظم العربية، وفي سماتها السائدة النازعة نحو القطرية والانغلاق. ونحن نعرف أن وثائق الجنسية والسفر هي، في جل هذه النظم، وسيلة للتضييق على الأفراد، ولضمان تسلط الحكومات وأجهزة الأمن وسيطرتها، وليست لتسهيل الحركة والعيش. هكذا يكابد الفلسطيني استبدادي الوضعية القانونية للجوء وعبودية الاستبداد العام.  

تبدو الصورة، اليوم، إلى الكوميديا السوداء أقرب. فإذ لا تشمل ولاية "أونروا" حماية اللاجئين الفارين من الجحيم السوري، فإن أقصى ما يمكن أن تفعله هو رفع التقارير إلى الأمم المتحدة، ومناشدة الدول المضيفة توفير الحماية للاجئين. ويلاحظ هشام مروة في دراسة أعدها في أواخر العام 2012 أن الدول استجابت لنداءات المفوضية العليا للاجئين بخصوص اللاجئين السوريين، في حين تجاهلت، أو لم تستجب، لنداءات "أونروا" بخصوص النازحين الفلسطينيين.

لا بد من العمل على إنهاء هذا الاستثناء التمييزي الفاحش. وتقترح سوزان أكرم، أستاذة الحقوق في جامعة بوسطن، تفسيراً حقوقياً جديداً لحقوق اللاجئين الفلسطينيين يتيح شملهم بنظام الحماية المعمول به دولياً، من جهة، ويفتح الطريق أمام وضعهم في نطاق ولاية المفوضية العليا لللاجئين، من جهة ثانية. وتبيّن أكرم أن حماية اللاجئين، والعمل على وضع حقهم الواضح والقوي الذي يقر به القرار 194 (الفقرة 11) موضع التطبيق، من مهمات الأمم المتحدة بوجه عام، والمفوضية العليا لشؤون اللاجئين تحديداً. وتذهب أكرم إلى أن تفسير مبادئ قانون اللاجئين تفسيراً يخص اللاجئين الفلسطينيين بنظام حماية ضعيف وهش تفسير غير صحيح للقانون، فمن حق اللاجئين الفلسطينيين أن يتمتعوا بنظام حماية مُعزز لا بنظام مختزل كما الأمر حالياً.

 

 

A15E2479-A86E-4FA5-9A8C-7C4CA1FB6626
محمد حافظ يعقوب

باحث وكاتب فلسطيني مقيم في باريس. من مؤسسي الحركة العربية لحقوق الإنسان. يحمل دكتوراه الدولة في علم الاجتماع من جامعة باريس. نشر مقالات ودراسات بالعربية والفرنسية. من مؤلفاته بالعربية: العطب والدلالة. في الثقافة والانسداد الديمقراطي. بيان ضد الأبارتايد.