الصداقة: كمشروع فكريّ مؤجّل

08 مارس 2015
(Getty)
+ الخط -
منذ فجر الفلسفة اليونانية وأرسطو يؤكد على أن "الإنسان السعيد يحتاج إلى أصدقاء". بل كان يقول أيضاً إن "الصداقة الكاملة تتحقق بين أناسٍ فضلاء متماثلين في الفضائل، لأن أصدقاء كهؤلاء يتمنون الخير بشكل مماثل لبعضهم البعض". هذا وينهض تاريخ الصداقة في المتن الفلسفي الغربي على استشهاد أرسطي طريف ربط منذ البداية بين ظاهرة الصداقة ومبدأ نُدرة الأصدقاء باعتبارهما متلازمين: "أيها الأصدقاء، لم يعد هناك صديق"!

والحقيقة أن الصداقة ترسّخت في الثقافة الغربية منذ اللحظة الإغريقية، باعتبارها جزءاً أساسياً من نظام العلاقات والقيم الذي أسسته المدينة الإغريقية. فيما نُفاجأ نحن بالفقر المدقع الذي تعانيه المكتبة العربية في هذا المجال، إذ تفتقر مكتبتنا إلى تأملات فكرية رصينة في مسألة الصداقة وكأننا استغنينا في العالم العربي بالقبيلة والعشيرة وذوي القربى عن الصداقة والأصدقاء. "وحدهم الأفراد الأحرار يستطيعون الارتباط برباط الصداقة الوثيق"، يقول سبينوزا، فهل نحن محرومون من الحرية إلى هذا الحد لنعجز عن ممارسة الصداقة في السياسة والثقافة والحياة؟ وهل لأجل ذلك تجدنا أقرب ما نكون إلى التعصب للقبيلة والطائفة والاصطفاف المذهبي والذوبان في الحشود منّا إلى الحضور المستقل كذوات حرة تتأمل وتُعمِل العقل وتنتقد بوعي ولا تجد غضاضة في التعبير عن رأيها الحر؟

لقد ارتبطت الصداقة بالاختلاف عند مفكري الحداثة. لكن الاختلاف مع الصديق لا يمنعنا من الإنصات لرأيه، بل يجبرنا على التواصل معه انطلاقاً من حريته. وهذه أخلاق لا تزال غريبة عن مجتمعاتنا مع الأسف. لذلك، حين يبحث الواحد منّا في مسألة الصداقة في الثقافة العربية، لن يجد سوى شذرات معزولة هنا وأبيات متفرقة هناك. "إخوان الصفا" أنتجوا بضع تأملات خجولة، فيما يبقى أبو حيان التوحيدي الوحيد الذي انشغل بالصداقة وذلك في كتابه "في الصداقة والصديق". بالمقابل، حين حاول ابن حزم الكتابة عن الصداقة في مؤلفه "في الإخوان والصداقة والنصيحة"، وجد نفسه يتحدث عن الأخوّة الدينية. هكذا جاء كتابه ليؤكد أننا سرعان ما نزايد على الصداقة بالأخوّة والقرابة في فكرنا العربي الإسلامي. فإيتاء ذي القربى وصلة الأرحام أساسيان ليكتمل إسلام المرء، فيما تُعتبر الأخُوّة في الله أساس الترابط في المجتمع الاسلامي. لذلك ربما في الوقت الذي تقوم فيه الأحزاب السياسية في الغرب على أسس فكرية سياسية واضحة لم يكن عبثاً أنْ تكرَّس تنظيم "الإخوان المسلمين" كأهم كيان حزبي أنجبته أمتنا في الزمن الحديث. فهذا التنظيم هو الصورة السياسية الحديثة لمفهوم الأخوّة في الله. أما ظاهرة الانشقاقات في المجال الحزبي العربي فيمكن قراءتها كفشلٍ في امتحان الصداقة بما هي فرح بالحرية وتقديس لاستقلالية الفرد واستيعاب للاختلاف.

وإذا كان مفكرونا قد زايدوا على الصداقة بالأخوّة، فإن شعراءنا سيزايدون عليها بنقضيها، حيث انشغلوا بإمكانية العدو التي تصمتُ عنها الصداقة، وبالعدو كاحتمالٍ تُضمِرُه الصداقة. يكفي أن نستعيد بيت المتنبي: "ومن نكد الدنيا على الحُرّ أن يرى / عدوّاً له ما من صداقته بُدُّ".

وعوض الإقامة الملتبسة في خوفنا المَرَضي من انقلاب الصديق إلى عدو، الأجدى أن نشتبك اليوم مع أسئلة الصداقة بروح جديدة. والغريب أن مكتبتنا العربية لا تقترح عناوين جدية في هذا الإطار باستثناء كتاب صغير لا يتعدى المئة صفحة سبق لمنشورات مجلة "اختلاف" المغربية أن أصدرته للمفكر المغربي مصطفى الحسناوي سنة 2001 تحت عنوان "نسيج الصداقة". كتاب نفد من السوق منذ سنوات والمجلة التي نشرته اختفت بدورها دون أن يفكر أحد في إعادة نشره في زمن عربي ما زالت الصداقة فيه مشروعاً فكرياً مؤجّلاً مع الأسف.

(شاعر وكاتب مغربي)
المساهمون