في الصف السابع، أثناء حصة الموسيقى، كان الأستاذ يعزفُ لنا على الأوكورديون ونحن ننشد: لسان الضادّ يجمعنا بغسانٍ وعدنان.. كنتُ شارد الذهن أفكر متسائلاً: تُرى من هو غسان ومن هو عدنان؟
فجأةً، اقتحم الصف علينا رجل يلبس بدلة كاكي. توقّف الأستاذ عن العزف، وتوقّفنا عن الغناء. صحوتُ من شرودي وحملقتُ بالرجل طويلاً. لا أعرف لماذا خُـيّل إليّ للحظة، أن هذا الرجل المتجهم يمكن أن يكون غسان أو عدنان!
بدأ الرجل ذو البدلة الكاكي يحدّثنا عن حبّ الوطن. وأسهبَ في الحديث وأطال كثيراً، وانتفختْ أوداجُه وارتفع صوته وازدادتْ حماسته وهو يحدّثنا عن حب الوطن والوحدة العربية والعدو الصهيوني الغاشم. ثم أنهى حديثه قائلاً: في حدا عندو سؤال؟
رفعتُ إصبعي لأسأل. قال لي: تفضل شو السؤال؟ قلت: أستاذ شو يعني...
قاطعني الرجل ذو البدلة الكاكي قائلاً: أنا ما بيقولوا لي أستاذ. أنا الرفيق أمين الرابطة. قولوا لي يا رفيق.. تفضّل تابع، شو السؤال؟
سألته: يا رفيق شو يعني العدو الصهيوني الغشيم؟
قطّب الرجل جبينه ورمقني بنظرة حادة حتى كدتُ أبلّلُ سروالي خوفاً، ثم زعق غاضباً:
- العدو الصهيوني الغاشم وليس الغشيم، فهمت يا جحش؟
- فهمت يا رفيق
فتح الرفيق ذو البدلة الكاكي حقيبته الجلدية، وأخرج منها أوراقاً وزعها علينا جميعاً، وقال:
هذه طلبات انتساب يجب أن تملؤوها كي تبدؤوا بحضور الاجتماعات كل أسبوع. وبالنسبة إلى السؤال الأخير الموجود في الورقة (ملخّص سيرتك الذاتية) يمكن رح تتلبكّوا شوي فيه.. لذلك أنا رح ساعدكم وقول لكم كيف تجاوبوا عليه؛ بتكتبوا: نشأتُ وترعرعتُ في بيئة فقيرة كادحة تؤمن بحب الوطن...
*
في الصف العاشر، أثناء حصة الفتوة، دخل علينا رجل يرتدي أيضاً بدلة كاكي، واستفاض بالحديث عن حب الوطن، ولم يكتفِ بشتم العدو الصهيوني الغاشم فقط، بل شتم أيضاً الإمبريالية المتغطرسة، ثم وزّع علينا أوراق وطلب منّا أن نملأها وأن نكتب موجز سيرتنا الذاتية (نشأنا وترعرعنا..) وقال: هذه الأوراق من أجل سبر أوضاع الطلاب.
رفعتُ إصبعي كالعادة، وسألت: سيدي شو يعني سبر؟ يعني هاي الكلمة إلها علاقة بمطعم اسبيرو على كورنيش البحر مطرح ما بياكلوا كباب وبيشربوا بيرة وعرق؟
زمجر الرجل ذو البدلة الكاكي صارخاً: اسبيرو وكباب وعرق؟! عم قلك سبر.. سبر يعني... يعني... تلعثم وارتبك لأنه هو نفسه لم يكن يعرف معنى الكلمة، ولأنه شعر بالحرج؛ تابع بغضب أشد: عم قلك سبر يعني سبر.. شو دخل اسبيرو والكباب والعرق يا جحش؟
*
في الجامعة، كان ثمة رجل يرتدي بدلة كاكي، يجمعنا كل أسبوع في المدرج ويحدثنا عن حب الوطن وعن المؤامرات التي يحيكها لنا العدو الصهيوني الغاشم الذي تسانده الإمبريالية الغاشمة والقوى الرجعية الغاشمة، ثم وزّع علينا الأوراق وطلب منّا أن نملأها وأن نكتب ملخّصاً عن سيرتنا الذاتية التي حفظناها عن ظهر قلب ( نشأتُ وترعرعتُ..) وقال لنا هذه الأوراق سنرفعها إلى رئاسة الجامعة التي تقوم بعملية المسح السياسي.
رفعتُ إصبعي وسألتُ الرجل ذا البدلة الكاكي: شو يعني مسح سياسي؟ يعني هاي الأوراق عم يجمعوها لأنو في سياسة وسخة لازمها مسح؟
الرجل ذو البدلة الكاكي اقترب مني بهدوء مريب، وابتسم ابتسامة صفراء لئيمة، وقال: عم تنكت وتمزح؟ عم تخفّف دم؟ سياسة وسخة لازمها مسح؟ شو رأيك إنو راسك اليابس هادا هو اللي بدو مسح يا جحش.
*
عندما نجحتُ في مسابقة التوظيف، وقبل أن أباشر عملي، كان لابد من استكمال الأوراق الثبوتية. كل الأوراق كان يجب تقديمها للوزارة باستثناء السيرة الذاتية، السيرة التي تبدأ بالكليشيه المعروفة: نشأت وترعرعت في بيئة فقيرة كادحة تؤمن بحب الوطن..
هذه الورقة بالذات كان يجب تقديمها لمكان اسمه "الفرع". هناك، حيث الرجل ذو البدلة الكاكي الذي يبتُّ في الأمر بعد التأكد من صلاحيتي لأن أكون موظفاً، يحب الوطن ويكره العدو الصهيوني الغاشم.
*
دعتني مؤسسة ثقافية لتقديم أمسية شعرية. رتّبنا كافة المسائل المتعلقة بإقامة الأمسية؛ الموعد والبطاقات والإعلانات.. إلخ.
قبل الأمسية بيوم، جاءني اتصال هاتفي من رقم غريب، قال لي:
- يا ريت تتفضل لعندي على المكتب بكرة بعد الظهر وتجيب معك كل القصائد اللي ناوي تقرأها بالأمسية.
- مين حضرتك؟
- أنا الرجل ذو البدلة الكاكي.
ذهبتُ في اليوم التالي إلى العنوان المحدد مصطحباً كل قصائدي التي سألقيها في الأمسية الشعرية، ودخلتُ مكتب الرجل ذي البدلة الكاكي. كان يستمع إلى أغنية "خضرة يا بلادي خضرة". رحبّ بي وبادرني قائلاً، بلهجة مهذبة وأسلوب وديع وصوت هادئ: لا تخاف استاذ. مجرّد إجراء روتيني. نحن لازم نطلع على القصايد اللي ناوي حضرتك تقرأها اليوم بالأمسية. وهادا طبعاً كلو مشان الوطن وأمن الوطن.. الوطن يا إستاذ هو الـ ...
وراح الرجل ذو البدلة الكاكي يشرح لي معنى الوطن وضرورة حب الوطن والدفاع عن الوطن، وعن حشد الطاقات لمكافحة العدو الغاشم والإمبريالية الغاشمة والقوى الرجعية الغاشمة التي تستهدف النيل من شرف الوطن؛ وأن أمن الوطن يتطلّب منّا جميعاً أن نكون الجنود الأوفياء المستعدين دوماً لبذل الأرواح والتضحية من أجل الوطن و.. و.. و..
مضت ساعة.. ساعتان.. أربع ساعات... صارت الساعة الخامسة والنصف عصراً، ولم يبق على موعد الأمسية سوى نصف ساعة، بينما الرجل ذو البدلة الكاكي ما زال يحدثني ويشرح لي معنى وأهمية حب الوطن ثم قال:
إنتو المسقفين يا إستاذ إلكم دور كبير في نشر أفكار حب الوطن بين الناس من خلال النشاطات والأمسيات والندوات. وبالمناسبة، أنا كتير بحب الشعر، خاصة الشعر الحماسي اللي بيحكي عن الوطن.
صارت الساعة السابعة مساءً، وراح موعد الأمسية وما زال الرجل ذو البدلة الكاكي يوصيني بحب الوطن، حتى ظننت أنه سيورثه.
* شاعر ومسرحي من سورية
اقرأ أيضاً: قد أخطأت في الزمن