فهناك فريق ممن اختاروا الدراسة في الخارج كان دافعهم الأهم هو الوجاهة الاجتماعية. هؤلاء ينتمون للطبقة الاجتماعية أو الاقتصادية ميسورة الحال والتي تجد أن الدراسة في الخارج هي الجزء المكمل للرتوش الأخيرة للصورة. وربما يتمتع كثير من هؤلاء بوظائف مستقبلية مضمونة في بلادهم من خلال أسرهم أو علاقاتهم، أو ربما لديهم خيار الالتحاق بجامعات دولية داخل بلادهم، ولكنهم مع ذلك يختارون الدراسة في الخارج.
الطيور المهاجرة
ولكن ـ إلي جانب هذا الفريق ـ ظهرت فئتان جديدتان، أو ربما ازدادت نسبتهما على خريطة الطيور المهاجرة، وهما:
تلك الفئة من بعض الطموحين الذين ينتمون للطبقة المتوسطة المرتفعة، وهي تلك المهددة بالانقراض في ظل الفجوة التي تتزايد بين الطبقات، حيث ينزلق الكثير من أفرادها لأسفل السلم، بينما يرتقي القليل منهم لأعلاه. وبالتالي فإن سبيلهم الوحيد لكسر الحلقة والارتقاء في السلم الطبقي ـ بدلا من السقوط لأسفله ـ هو التعلم في جامعة رفيعة المقام، تؤهلهم لمهارات ومعارف ذات جودة حقيقية، وبالتالي تحقق لهم فرص عمل أفضل ومستوى دخل أعلي. وهؤلاء يبحثون عن فرص للمنح الدراسية للمتفوقين أو الناشطين، أو يحترق آباؤهم عملاً وسعياً لتحمل مصروفات إلحاقهم بجامعة بدولة أجنبية.
وفئة أخرى قد هجرت أوطانها للدراسة في الخارج إما كٌفرا بتلك الأوطان أو خوفا من الهلاك والدمار والملاحقة بسبب الحروب أو النزاعات السياسية التي اشتعلت في الوطن العربي وخاصة في السنوات الأربعة الأخيرة (اليمن ـ ليبيا ـ سوريا ـ مصر...)، هؤلاء يبحثون عن وطن جديد، وبوابتهم لهذا الوطن هي الدراسة في الخارج ليبدأوا رحلة الهجرة مبكرا، على أمل العودة أو بغير رغبة في العودة.
وهكذا أصبحت الدراسة في الخارج "حلما" يطارد الكثيرين من أبنائنا ـ مع اختلاف دوافعهم ـ في ظل واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي لا نستطيع تجاهله وتمريره، ولا نستطيع أيضا تحسينه وتغييره على المدى القريب.
وهنا يأتي السؤال المشروع: هل تحقيق هذا الحلم ممكن ـ وخاصة للفئتين الثانية والثالثة؟
صعب وممكن
الفئة الأولي قد لا تعاني كثيرا لتحقيق هذه الرغبة، لأن الشاب هنا منذ ولادته يؤهل لهذه اللحظة، و يرتب أهله لها ، وذلك منذ اختياره للمدرسة "الدولية" التي يلتحق بها و التي تؤهله لجامعة "دولية" أيضا غالبا خارج البلاد.
ولكن تظل الشروط قاسية وصعبة جدا للالتحاق بالجامعات في الخارج للفئتين الأخريين. و لكننا مع ذلك نستطيع أن نقول أنها ـ مع صعوبتها ـ ممكنة وغير مستحيلة.
وأول هذه الشروط هو اللغة الأجنبية التي يُطلب لها مستويات متقدمة. ولكن نجد هناك بدائل كثيرة لدراسة اللغة، سواء من خلال المراكز المتخصصة باهظة المصروفات أو بشكل ذاتي مجاني من خلال بعض مواقع التعليم الالكتروني ووسائل الانترنت المختلفة بحيث لا يتكلف الطالب في النهاية سوى مصروفات امتحان الشهادة الدولية المعتمدة في اللغة الأجنبية التي تشترطها الجامعة. وهنا تأتي المعادلة الشهيرة: كلما كانت الدراسة ذاتية مجانية كلما ازداد الجهد اللازم و الدافعية المطلوبة للاستمرار. وهذا ـ كما ذكرت ـ في غاية الصعوبة ولكنه ممكن.
ثم يأتي الشرط الأصعب وهو التمويل. "المتميزون" وأيضا "اللاجئون السياسيون" لديهم فرص في الحصول على منحة دراسية. و التميز هنا له صور مختلفة مثل: التفوق الدراسي، أو الفوز في المسابقات، أو القيادة و الريادة في الأعمال الاجتماعية. أما غير هؤلاء فلا سبيل أمامهم سوى أن يمولوا دراستهم بأنفسهم أو بمساعدة الأهل. وهذا أيضا قد لا يكون مستحيلا إذا تم إعادة ترتيب أولويات الإنفاق في البيت العربي، كما تم تنشئة الأبناء على محاولة الكسب المبكر من خلال أعمال أو مشروعات صغيرة تساعدهم في تمويل دراستهم.
ليس عيبا
وكما أن الدراسة في الخارج ليست مستحيلة، فإنها أيضا ليست عيبا..
فليس عيبا أن يسعى المرء لزيادة معرفته أو مهاراته أو أن يطلب العلم "ولو في الصين" ـ كما ورد في الأثر.
وليس عيبا أن يبحث أبناؤنا عن طوق للنجاة يوسع لهم الأفق من أجل كرامة إنسانية أو حياة أكثر رغدا في أي مكان على سطح الكوكب، فإن أرض الله واسعة.
ولكن هذه التجربة تعتبر تحديا حقيقيا.. سواء على المستوي الشخصي أو الوطني؛ يطرح أمامنا أسئلة كثيرة:
هل نحن نربي أبناءها لنسلمهم كهدية سهلة تخدم حضارات أو ثقافات أخرى؟
هل يمكن أن يتحول أبناؤنا إلى مجرد تروس صغيرة في آلة الرأسمالية المتوحشة أو عبيد في سوق نخاسة الحضارة المادية؟
هل ستأسرهم الحياة النفعية المادية الصماء بعيدا عن رحابة الروح؟ هل ستنقطع صلتهم بأراحامهم وأهلهم؟ هل سيسحقهم الشعور بالدونية أمام الرجل الأبيض فيتنكروا لجذورهم وأصولهم؟
أنحاز بشدة لحضارتنا وثقافتنا وهويتنا وعربيتنا.. أنحاز للإيمان بالله، والسكينة الروحية، والتراحم والتواصل والعفة والإيثار. أنحاز إلى المحافظة على جذورنا وهويتنا وثقافتنا وحضارتنا، وألا يكون أبناؤنا مسخا مشوها أو لقيطا مقطوعا عن أصله.
البوصلة والخطة
هذه الانحيازات تحتاج إلى "بوصلة" تحدد اتجاهها، ثم تحتاج إلى "خطة" تترجمها عمليا.. وأتصور أن كلا من البوصلة والخطة يتحمل مسئوليته الفرد أولا، فكما استطاع هذا الفرد بشكل "ذاتي" أن يتبع خطوات لتحقيق حلمه في الدراسة في الخارج فهو يتحمل أيضا ـ بشكل "ذاتي"ـ مسئولية أن يتبع خطوات ليحافظ على هويته.
وهؤلاء الأفراد هم الذين يصنعون المبادرات والمؤسسات الجماعية التي تعمل على دعم الهوية والثقافة والحضارة، كما تسعى للتوازن بين ذلك وبين الدبلوماسية الشعبية والتواصل الإنساني مع الجميع دون انغلاق أو "جيتوهات" أو صراعات.
لا يزال من حقي أن أحلم بأن تكون جامعاتنا العربية أيضا قبلة لغير العرب، وأحلم بأن تعتلي منزلة عالية من الناحية الأكاديمية والمهنية. ولا أقول من باب "النوستالجا" أنه في يوم من الأيام جاء الغرب ليتعلموا في جامعاتنا، ولا حتى أدعو لصراع أو استعلاء على الآخر، ولكني أحلم ـ علي الأقل ـ بالندية التي تليق بثقافتنا وتاريخنا.