13 نوفمبر 2024
التغريبة السورية
ستظل صورة الطفل السوري، عيلان عبدالله الكردي، شاهدة على أكبر مأساة يعيشها الشعب السوري في القرن الواحد والعشرين، تماماً، كما جسد طفل الفنان الفلسطيني ناجي العلي، حنظلة، مأساة الشعب الفلسطيني في القرن العشرين.
عيلان السوري وحنظلة الفلسطيني، كلاهما تحوّل إلى أيقونة للجوء شعبيهما وتشردهما. عيلان، الجثمان الهادئ المستسلم لقدره بعد أن لفظه البحر ذات ليلة مدلهمة هوجاء، أزعج الهدوء الكاذب للشاطئ التركي المرمري. وحنظلة الرسم الذي خلد مأساة الطفل الفلسطيني، عندما قرر إدارة ظهره للعالم، بعد أن خذله الجميع، وتركه يواجه مأساته وحيداً، ينظر نحو التيه الذي حُكم عليه أن يعبره حافي القدمين.
ما بين المأساتين، المأساة الفلسطينية المستمرة في الزمان، والمأساة السورية الشاهدة على أكبر تغريبة في العصر الحاضر، تكبر المأساة العربية من المحيط إلى الخليج. كل شعب عربي يعيش تغريبته بطريقته، في اليمن التغريبة اليمنية بلا بوصلة، وفي العراق التغريبة العراقية بلون طائفي، وفي ليبيا التغريبة الليبية بطعم حرب الإخوة الأعداء...
أصبحت صور اللاجئين التائهين الواقفين أمام بوابات معابر حدود الدول العربية، والراكبين أمواج البحار الهائجة، والعابرين حدود الدول الأوروبية المسيجة، مادة إخبارية عادية تؤثث نشرات الأخبار على شاشات القنوات الفضائية، مثل صور القتل والذبح والقصف التي تحولت مواد عادية في يوميات الخبر العربي.
التغريبة السورية الكبرى ليست فقط هي أكبر تغريبة شعب في وقتنا الحاضر، وإنما هيالتغريبة التي تحمل اسمها بدون منازع. فإذا كانت التغريبة تأتي اشتقاقا في اللغة من اسم "تَغريب"، أي البُعْدُ والنفيُ وَالنُزوحُ عَن الوَطَنِ، ومن مصدر هو "غَرَّبَ"، أي "اتجه صوب الغرب"، فإن كل هذه المصطلحات اجتمعت في مأساة الشعب السوري الذي اضطرته "براميل" الأسد وساحات إعدام "داعش" إلى الهروب من وطنه، وأمام إغلاق بوابات الحدود العربية لم يجد منفذاً لتيهه سوى الغرب، فهو تغرّب مرتين: غُربة الوطن وغُربة الوجهة.
تبقى مفارقة هذه التغريبة السورية الكبرى هي هذا الصمت المريب الذي يقابلها في الشرق. صمت الشعوب العربية وصمت مثقفيها وصمت علمائها وصمت قادتها.. صمت تقابله موجات التضامن العالمي التي شهدتها أكثر من عاصمة ومدينة غربية، في لندن وروما ومدريد وكوبنهاغن وميونيخ ونيس في جنوب فرنسا. وسكون عربي يقابله تحرك غربي، ففي فرنسا، قام الرئيس فرنسوا هولاند بزيارة مفاجئة إلى مقر لإيواء اللاجئين السوريين قرب باريس، حيث وعدهم بتسريع إجراءات حصولهم على اللجوء. وإلى لبنان، طار رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، ليتفقد مراكز اللاجئين السوريين الفارّين من براميل الأسد. وفي الضفة الجنوبية من حوض البحر الأبيض المتوسط، يخيم صمت القبور فوق قصور القائد والزعيم العربي.
وأمام استقالة المثقف العربي، تحرك مثقفون غربيون لمطالبة دولهم باتخاذ تدابير عاجلة وحاسمة لمعالجة أزمة اللاجئين الذين نزحوا بالآلاف إلى أوروبا، وإدانة سلوك الأفراد والجماعات والدول التي تتعامل مع الأجانب بالكراهية والعنصرية والعنف. وتوجهوا مباشرة إلى السلطات المجرية بالقول: "السيد أوربان هدموا جدار العار.. أوروبا ليست قلعة مسوّرة".
قد يُشفع للشعوب العربية سكونها، فهي في المأساة والبؤس والحزن سواء، ولن تجدي محاسبة المسؤولين العرب عن تخاذلهم، فليست هذه هي المرة الأولى التي يقفون فيها متفرجين على مأساة شعوبهم. لكن، ما لا يمكن استساغته هو هروب المثقف العربي واستقالته من تحمل مسؤوليته الأخلاقية والأدبية.
ألهذه الدرجة مات الإحساس وتجمدت المشاعر عند المثقفين العرب! فمأساة عيلان الكردي السوري العربي لا تقل ألما وحزنا عن مأساة الطفل محمد الدرة الفلسطيني. يومها، كان ما زال في الجسد العربي عرق ينبض بالأحاسيس والمشاعر، فهل تشمّعت كل العروق، وحنطت الأجساد، التي لم تعد تصلح حتى للبكاء والحزن؟
عفوا أيها الصغير عيلان، صورتك آلمتنا وأحزنتنا، وشكرا لك، لأنك لم تدر وجهك لنا حتى لا نرى حزنك وغضبك الذي سيظل يلاحقنا في كوابيس يقظتنا ونومنا. جثمانك الصغير المسجّى فوق الرمال المرمرية، تداعبه موجات الصباح الباردة، أيقظ ضمير العالم في الغرب، فادعُ لنا ربك أن يوقظ ضمير إخوانك في الشرق، قبل أن يفوت الأوان.