إلى عمار ديوب: ما هكذا تورد الإبل

20 مارس 2020

سوريون في إدلب يتظاهرون إحياء ذكرى الثورة (18/3/2020/فرانس برس)

+ الخط -
انطوى نقد الكاتب عمار ديوب للتعقيب الذي كتبته على مقالة الأكاديمي برهان غليون (في نقد "نقد طفولتنا السياسية"، العربي الجديد:2/3/2020) على أحكام متسرعة وغير مدروسة، ما استدعى هذا التوضيح. 
1- في تعليقه على قولي "ما زال مجتمعنا، في العمق، يراوح عند مرحلة الانتقال من النظام السلطاني، بتجسّده الأخير: السلطنة العثمانية، إلى نظام الدولة - الأمة، الدولة الوطنية" وضع بعد كلمة العمق معترضتين، بينهما عبارة بعدها علامة تعجب "لاحظ العمق التاريخي الذي لا يطرأ عليه أي تغييرٍ!"، مع أن قولي لا يشير إلى عمق تاريخي، وإنما يشير إلى الجوهر الذي خلف المظهر، كالذي عكسه قول الفيلسوف اليوناني سقراط، عندما قابل في السوق رجلا ضخما حسن المظهر جميل الثياب، فقال له: "يا هذا تكلم حتى أراك"، فالعمق في قولي يتعلق بما وراء موقف المجتمع السوري من الدولة الحديثة الذي يعيش في ظلها، ظاهريا، وعقله ووجدانه متعلق بسواها، جوهريا؛ فحاله كحال طالب محمد عابد الجابري الذي نقل معاناته له بقوله :"أنا في الجامعة متحرّر أرقص وأغني وأتعاطى الكحول، والماريجوانا أحيانا، وفي البيت والحي مسلم محافظ؛ وقد تعبت من هذه الازدواجية". تابع، عمار، معلقا "وأين الخطأ في إظهار مشكلة غياب "الدولة الأمة" مشكلةً حقيقيّة لدى العرب؟."، مع أن قولي ليس فيه تحفظ على إظهار مشكلة غياب الدولة الأمة؛ وأن ملاحظتي تتعلق بعدم تحول القبول بها إلى موقف شعبي راسخ، فأغلبية المجتمع السوري، كما أرى، واقفة على التخوم بين الدولة السلطانية والدولة - الأمة.
2- علق على قولي "فشعارات المواطنة والدولة المدنية التعدّدية شعارات نخبوية تتبنّاها قوى سياسية واجتماعية صغيرة، مدينية في الغالب"، بقوله: "ليس صحيحاً أن الوعي المدني (دولة مدنية) يخص جماعاتٍ صغيرة"، من دون أن يقدم دليلا أو مؤشرا على هذا الحكم. هل ثمّة إحصاء أو استطلاع رأي يؤكد هذا الحكم الجازم؟ مع أن الواقع السوري يقول بعكس ذلك عمليا من خلال عدم استجابة المواطنين لدعوات الأحزاب اليسارية والديمقراطية للانضمام إلى صفوفها أو المشاركة في نشاطاتها العامة، حيث لم ينجح أي منها بالتحوّل إلى حزب جماهيري واسع الانتشار راسخ القواعد. فـ "ما زال التوجه الحديث نخبويا لم يخترق التشكيلات الاجتماعية الشعبية، ويقنعها بصلاحيته لحل مشكلاتها المادية والروحية".. و"لم تدخل كل القيم والتصورات والمحدّدات الحديثة في صميم قناعة القوى الشعبية العريضة، ولم تلامس وعيها، وتغير من طبيعة مخيالها السياسي والاجتماعي"، كما جاء في تعقيبي على برهان غليون.
3- استغرب نقدي المعارضة الديمقراطية، واعتبره دفاعا عن القوى الإسلامية. ورأى في ذلك 
خطأ. كتب: "يؤكد العبدالله، في رّده على غليون، حق الإسلاميين في الاختلاف بالمنظور السياسي، وهذا ما لا يرفضه غليون، وإن انتقد السلفية بصورة خاصة. وبالتالي، لماذا يدافع العبدالله عن قضية خاطئة، وقد انتقد الإسلاميين، ورؤيتهم الطائفية والفئوية في الثورة السورية في مقالاتٍ كثيرة؟". أولا، لم أتحدث عن الاختلاف السياسي، بل عن "حق كل جهة سياسية في العمل على فرض رؤيتها وخيارها في إطار صراع الأفكار والبرامج"، وهذا غير ذاك. وركزت نقدي على المعارضة الديمقراطية، لأن دعوة غليون موجهةٌ إليها، فهي فرس الرهان، ما استدعى نقدها وكشف نقاط ضعفها ومطالبتها بالعمل على التخلص من هذا الضعف، حتى تكون قادرة على القيام بالمهمة المطلوبة. أما تساؤله "لماذا يدافع العبدالله عن قضية خاطئة"، فمستغرب، ما هي القضية الخاطئة التي دافعت عنها وأين هو هذا الدفاع؟ لقد رفضت موقف المعارضة الديمقراطية التي تسعى إلى ستر فشلها بإلقاء اللوم على الآخرين من دون أن تواجه ذاتها وتقوّم ممارستها، "لم تستطع المعارضة الديمقراطية لعب دور وازن في الثورة، لهشاشة تكوينها، من جهة، ولافتقارها للعمق الشعبي من جهة ثانية". وفسّرت نجاح حركات الإسلام السياسي في تصدر المشهد، وربطته بجملة أسباب: "وارتباط ما حصل (تصدّر حركات الإسلام السياسي المشهد)، بأسباب كثيرة من قدرات سياسية وتنظيمية واستعدادات فردية ودعم خارجي كبير من قوى إسلامية، قريبة أو مماثلة، ومن دول لا تريد نجاح تجربة سياسية بإرادة شعبية. صحيحٌ أنها ارتكبت كبائر سياسية وتنظيمية ومالية، خصوصا "داعش" وسلوكه المتوحش وجرائمه بحق المدنيين العزّل ... الخ". فهل في هذا دفاعٌ عن هذه الحركات؟ إنه وصف لما حصل، وفيه نقد لها "ارتكبت كبائر سياسية وتنظيمية ومالية".
4- كتب في فقرة أخرى "يركز علي العبدالله على شكل الوعي السوري، ويراه "في العمق" شكلاً دينياً، وأن الدين ما زال "المحرّك الطبيعي للسياسة" في مواجهة "الحكومات الاستبدادية العلمانية". لن أجادل بأن ذلك ليس صحيحاً من أصله؛ فهناك بيئاتٌ اجتماعيةٌ وعيها ديني. ولكن، وعكس ذلك، الثورات العربية، وإن كان الوعي الديني منطلقاً لبعض قطاعاتها المجتمعية، فهو لم يكن سبباً في حدوث الثورة". عجيب تسرّع عمار بالجزم "لن أجادل بأن ذلك ليس صحيحاً من أصله"، والأعجب طرحه أحكاما تحتاج إلى أدلة ملموسة، مثل قوله "وإن كان الوعي الديني منطلقاً لبعض قطاعاتها المجتمعية"، هل هي "بعض" حقا أم أغلبية؟ ونقله الحوار بعيدا عن الفكرة "فهو لم يكن سبباً في حدوث الثورة". كان كلامي عن الإسلام ودوره في تكويننا السياسي والاجتماعي، وما منحه لحركات الإسلام السياسي من أفضليةٍ على صعيد الاستقطاب والحشد الجماهيري، لم أربط بين الثورات والوعي الديني، بل بين نجاح حركات الإسلام السياسي في الاستقطاب والتحشيد وهذا الوعي، وفشل المعارضة الديمقراطية في ذلك. قلت: "لكن السبب الرئيس لخسارة المعارضة الديمقراطية، برأيي، وجود هوةٍ واسعةٍ بين حواضن الثورة ورؤية
 المعارضة الديمقراطية السياسية والاجتماعية، وفشل الأخيرة في جسر هذه الهوة"، و"تركها الإسلام لحركات الإسلام السياسي توظفه في معاركها الفكرية والسياسية، فتفوز بالشعبية، وبتحشيد القوى الاجتماعية حول شعاراتها وأهدافها"... "لقد أخطأت المعارضة الديمقراطية بتجاهل هذا الاستحقاق، مع ما للإسلام من موقع مركزي ودور في تكوين شخصية السوري، وانطوائه على طاقة ثورية عظيمة، ودفع قوي للتضحية في سبيل العقيدة والقيم الأخلاقية"، ودعوتها إلى "العمل على جسر الهوة مع الرؤى والقناعات الشعبية، بالبحث عن تقاطعاتٍ، وطرح تأويلاتٍ وحلولٍ وسط تجعل الرؤى والخيارات الحديثة قريبةً من المزاج العام". كتب في فقرة أخرى "أتفق مع العبدالله على أن شكل الوعي لم يتغيّر كثيراً، ولكن هذا لا يتعلق بالماضي، ولا بالدين، ولا بأن الدين ما زال يشكل مخيال المسلمين، منذ وجد الإسلام. ويتعلق الأمر بالقوى التي تخوض الصراع السياسي والاجتماعي، وقبل الثورة بالنظام وبعده بالنظام والمعارضة وبالفاعلين الثقافيين بكل تنويعاتهم". لم يكن كلامي عن المسؤولية، بل عن موقع الإسلام في وعي السوريين ووجدانهم، توصيف الواقع بدقة كي يكون قاعدة لتحرك واقعي، وهذا ينطبق على معظم العرب والمسلمين، نحن "نعيش في مجتمع ثقافي وفكري ديني بامتياز، يتجلى ذلك في علاقاتنا مع الآخر، مع المختلف، مع الثقافة، مع الفكر، مع العلم، مع التربية، ومع السياسة، كل شيء نفسره بالدين ونحيله إلى الديني، نفضله ونتعاطف معه لأن فيه رائحة الدين ونرفضه ونعاديه لأن فيه سؤال العقل، نتعاطف مع رجل الدين حتى ولو كان على خطأ، ونحاسب الفيلسوف العقلاني، حتى ولو كان على حق"، وفق الكاتب الجزائري اليساري أمين الزاوي. أضاف عمار ديوب "لا يمكن إعطاء أهمية كبيرة للوعي التقليدي، وأنّه ما زال يتمحور حول هذا الصحابي أو ذاك، أو حول هذا الزعيم الديني أو ذاك، ولو كان فعلاً يتمحور حولهم، فإن ذلك لا يتعلق بهم. لا، فهذه الاستعادة تتعلق بالفاعلين في الحاضر، أنظمة وقوى إسلامية وتيارات فكرية، وهي تستثمر في التديّن والتطييف.". دعوة عجيبة أن يطلب الكاتب عدم إعطاء أهمية للوعي التقليدي، مع أنه الغالب بين السوريين، وأن تجاهله سيجعل أي تقدم على طريق التغيير غير ممكن؛ علما أن التغيير لا يكون حقيقيا من دون تفاعل القوى الشعبية ومشاركتها، وإلا كان تغييرا سطحيا قابلا للانهيار في أي مواجهة مع الخصوم والأعداء.
5- علق عمار على دعوتي إلى جسر الهوة بين المعارضة الديمقراطية والقناعات الشعبية، قائلا: "ولكن ما هو غير دقيق ردّ الفشل، ولنقل مشكلات الثورة وتعقيدات مآلاتها ومآلات سورية إلى عدم تبصّر المعارضة الديمقراطية لروح الشعب (الإسلام)، وأن مشكلة المعارضة تكمن هنا! وقد أوضحت أن ثورات الموجة الثانية كانت بالضد من الإسلاميين، ولم يكن لديها مشكلة مع الإسلام، وأن أهدافها تمحورت حول الديمقراطية والمدنية والعلمانية، والخروج من الأزمة الاقتصادية،
 وتأمين فرص عمل وهكذا". هنا أيضا خلط وعدم تمييز بين الإسلام دينا وثقافة اجتماعية وحركات الإسلام السياسي، فما قلته فشل المعارضة الديمقراطية لافتقارها العمق الشعبي وتجاهلها الهوة التي تفصلها عن القاعدة الشعبية ذات الثقافة والخيارات الإسلامية، من جهة، وأن هذا مختلف عن كون الثورات ضد الإسلاميين، من جهة ثانية، لأن كون الثورات ضد الإسلاميين، إن كانت كذلك، لا يلغي ضرورة جسر الهوة والتعاطي مع الإسلام الدين والثقافة بما يليق بمكانته بين الناس، وعدم تركه للحركات الإسلامية المنغلقة والمتطرّفة، توظفه في سعيها إلى كسب تأييد المواطنين وحشدهم في معاركها السياسية والاجتماعية.
وكتب في فقرة أخرى "بل أوضحت الثورات، في موجاتها الثانية، طبيعة الموجة الأولى، وهي ضد الأسلمة بالكامل، وضد حكوماتٍ كانت تدّعي الأسلمة "العراق، السودان، لبنان، ولديك إيران". قول عجيب كيف توضح الموجة الثانية طبيعة الموجة الأولى، مع أنها وقعت في دول أخرى، وضد أنظمة مختلفة، واحتجاجا على مشكلات مختلفة، بقوى سياسية واجتماعية مختلفة. ثم كيف تبين أنها ضد الأسلمة، كما أن نظامي العراق ولبنان لم يتبنيا الأسلمة، الواقع أنها لم تقل أنها ضد الأسلمة، بل ضد الاستبداد والفساد الذي تمارسه أنظمة ترفع شعار الإسلام، وتتصرف عكسه في معظم القضايا ما جعلها منبوذة حتى من الإسلاميين، حزب ‏المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي، حزب حسن الترابي، وحزب الأمة، حزب الصادق المهدي، وحزب الإخوان الجمهوريون، حزب الشهيد محمود طه، أحزاب إسلامية، وقفت ضد نظام عمر البشير.
6- علق عمار ديوب على قولي إن معظم المعارضة الديمقراطية "كانت يسارية"، قائلا "والتي يسميها العبدالله خطأ يساريّة" هي معارضة ليبرالية، علما أن ليس في سورية أحزاب ليبرالية، والتي أعلنت أنها ديمقراطية في العقدين الأخيرين جاءت من صفوف اليسار، وقد ميّزت بين اليسارية والديمقراطية في فقرة أخرى، عندما قلت: "كرر الكاتب، غليون، موقفا تبنّته المعارضة اليسارية والديمقراطية"، لأن ثمّة أحزابا تمسّكت بموقفها اليساري القديم، مثل حزب العمل الشيوعي.
7- اعتبر قولي "ثمّة واقع جديد يحتاج إلى مواجهة ومعالجة، نجاح النظام في دفع أغلبية الشعب السوري إلى الانغماس في همومه الخاصة، والتفكير في ظروفه المباشرة، ما جعل ويجعل محاولات الثورة والتغيير حرثاً في بحر"، اعتبره موقفاً يائساً. لم ير لقولي "يحتاج إلى مواجهة ومعالجة" دلالة ولا قيمة، وأن "الحرث في البحر" محصلة لعدم مواجهة هذا الواقع الجديد، فـ "لا يمكن تغيير كل ما يواجهه المرء، لكن لا يمكن تغيير أي شيء حتى تتم مواجهته"، وفق قول الكاتب الأميركي جيمس بولدوين.
6CA590C2-8659-4A0A-A922-01E9ECC0A639
علي العبدالله

كاتب سوري